بقلم: د. ماجد السامرائي- العرب اللندنية
الشرق اليوم- أيام صعبة يعيشها الرئيس الأميركي جو بايدن بسبب التحديات الاقتصادية الداخلية ووباء كورونا المستجد، والتحديات الخارجية المتمثلة بمخاطر الصين وروسيا اللتين تطوّقان سياساته قبل اكتمال عامه الأول في البيت الأبيض. لقد وضع نفسه وحزبه أمام امتحانات متوالية عسيرة يحاول التخفيف منها من خلال إطلالته على مئة وعشرة رؤساء أو مسؤولين من بلدان العالم المُصنفة أميركيا أنها ديمقراطية عبر مؤتمره الافتراضي الذي عقده في التاسع والعاشر من ديسمبر الحالي.
في مؤتمره هذا حاول التعويض عن إخفاقات الولايات المتحدة في السنوات العشر الأخيرة في المحيط الدولي، ومن تراجع حاد وتلاش لنظرية القرن الأميركي الجديد أو زعامة الولايات المتحدة للعالم، أو في جعل العراق قاعدة نموذجية لمشروع الشرق الأوسط الجديد عبر ديمقراطية هزيلة تحكمت من خلالها أحزاب الإسلام السياسي الفاسدة الموالية لإيران ونهبت ثروات العراق وتركت شعبه جائعا مفككا.
اعتقد بايدن في استعراضاته حول ما تواجهه الديمقراطية من تحدّيات أنه سيتمكن شعاريا من تبرير أخطاء وخطايا من حملوا الشعار السحري الذي جذبوا من خلاله عشرات الملايين من البشر، في شرق الأرض ومغربها، الذين وقعوا تحت معاناة وكوارث الاستبداد الفردي أو الحزبي أو الطائفي أو القبلي، دفعهم التعلق بها وبالحرية رائدة حركة الحياة إلى التضحية بأرواحهم، أو تحمل أعباء التشرّد والفقر من أجل صناعة نماذجهم المُقلّدة لمنابع الديمقراطية الأميركية والأوروبية.
بايدن يعتقد أنه بعرضه إخفاقات الديمقراطية والتحدّيات التي تواجهها كالفساد وتردي حقوق الإنسان في أمثلة خارج الولايات المتحدة وكذلك في داخلها، سيجلب التعاطف السياسي العام حول إدارته “الديمقراطية” مرحليا، ومنع ردود الفعل لبعض الدول النامية التي قد ترتمي في أحضان القطب الروسي الذي ينمو بسرعة غير متوقعة إلى جانب الصين. لكن مثل هذه الشعارات النظرية قد تصلح لناشط وداعية أو باحث أميركي وليس رئيس الدولة الأكبر في بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين.
مع ذلك تبدو المناقشة والمقارنة السياسية ما بين النظري والعملي للسياسات الأميركية مهمة، من المفيد للمفكرين والسياسيين العرب في هذه المرحلة عدم تجاهلها والانشغال في جزئيات الحدث اليومي، لكي لا يطوي الزمن حقائق التاريخ، ويتم ليّها من قبل أولئك المرتزقة السياسيين وحفاة الفكر والعقل الذين يسودون عالمنا العربي.
بايدن انتقى موضوعاته في بيان الديمقراطية بما يخدم مؤسسته الحزبية الحاكمة، ومواقفه العملية الموروثة في السياسة الأميركية الخارجية، لكنه افتقد الجرأة والصراحة التي تشكل العنصر الديناميكي الفعال للحفاظ على حيوية الديمقراطية، فلم يكن صريحا في عرض أمثلة لأهم تحديات الديمقراطية ومنابعها الأميركية في ارتكاب الآلاف من انتهاكات الحكومات الأميركية ضد حقوق الإنسان وحرية الشعوب في خياراتها السياسية خلال نصف قرن.
حاولت السياسات الخارجية للولايات المتحدة في السنوات الأولى بعد الحرب الثانية تأجيج صراع القطبين الأيديولوجي عبر شعارات وجدت لها مكانا في الذهنية الجمعية للجماهير المسحوقة خارج البلدان الخاضعة للاتحاد السوفييتي، في شرق العالم وأوسطه، العالم الحر مقابل العالم الدكتاتوري، والرفاهية والحرية الفردية والإبداع الذاتي وحماية الملكية مقابل الانغلاق وموت الفرد من أجل وطن حر وشعب سعيد لم تتحقق حدوده الدنيا في الواقع.
في حمى هذه الحرب الكونية وغبارها المتلوّن بألوان الموت البطيء للإنسانية، غطت زعامة الديمقراطية في واشنطن أكثر صنوف الاستبداد والطغيان في العالم بعد أن تفرّدت بالمكانة الأولى للديمقراطيات الحاكمة بسبب ما أصاب الدول الأوروبية من تراجع بعد الاحتلال الهتلري لمعظمها.
أصبحت الولايات المتحدة معمل القوة المدمّرة ومسوّقها للعالم الجديد الذي أطلقوا عليه تعسّفا العالم الثالث، في تصنيف أقرب إلى الإقطاعية منه إلى فضاء الديمقراطية واللياقة الدولية.
مفيد التذكير بعناوين لأمثلة سريعة لتلك الانتهاكات الأميركية الصارخة التي ظهرت توصيفات بعض حقائقها من داخل الدوائر الفكرية والإعلامية الأميركية ذاتها، وأصابت دولا وشعوبا مهمة في العالم كأميركا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية. أكثرها قسوة ومرارة ما حصل للعراق البلد الذي أراد شعبه أن يعيش كباقي شعوب المنطقة بحرية وسلام ينظم شؤون حياته وفق نظام حكم عادل.
السياسي الأميركي بايدن ليس هو التاجر دونالد ترامب أو الممثل السينمائي رونالد ريغان أو ضابط البحرية جيمي كارتر، هو محترف يحتفظ في ذاكرته ومسيرته الطويلة بقائمة طويلة من أمثلة وتجارب الانتهاكات لقيم الديمقراطية وتجاهلها لصالح متطلبات النفوذ الأميركي في مرحلة الصراع مع الاتحاد السوفييتي بعد الحرب الثانية كمساندة الدكتاتوريات ضد شعوب بلدان أميركا اللاتينية التي تحتاج تفصيلاتها مقالات كثيرة.
لا يستطيع الديمقراطي بايدن فلسفة وتجميل الوجه القبيح لأبشع تجربة نفذتها الإدارات الأميركية السابقة، ديمقراطية أو جمهورية، خاصة في أميركا اللاتينية في ثمانينات القرن الماضي تحت ذريعة شعار الديمقراطية الذي اُنتهك في مثال دعم الدكتاتور الشيلي بينوشيه المسؤول الأول عن قتل الرئيس المنتخب سلفادور الليندي وعشرات الألوف من الشيليين.
كذلك المثال الفاضح في صفقة إيران كونترا أو ما سمي عربيا إيران غيت عام 1985، في ظل إدارة الرئيس الجمهوري ريغان، حيث تعهدت واشنطن بتزويد طهران بالسلاح مقابل الإفراج عن رهائن أميركيين، تم اختطافهم من قبل ميليشيات شيعية لبنانية موالية لإيران.
كانت تلك الفضيحة سببا مباشرا في سقوط ريغان في انتخابات الرئاسة عام 1985، فهل ستكون صفقة بايدن الحالية مع طهران في النووي إذا ما وقعها سببا في سقوط بايدن بعد أكثر من ثلاثة عقود من سقوط ريغان.
أمثلة ملف الانتهاكات الأميركية لحقوق الإنسان في العراق تحتاج إلى بحوث ودراسات ومقالات. للأسف نجد أن غالبية مدعي الثقافة والإعلام في العراق يتجاهلونها لصالح تسويق نظرية الولي الفقيه الاستعماري الإيراني.
توالت سياسات وبرامج تدمير العراق عسكريا وبصورة مباشرة منذ عام 1991، الإدارات الأميركية المتعاقبة لا تختلف بالاستراتيجيات والسياسات الخارجية إلا بتأثير العامل الشخصي لكل رئيس بالجزئيات.
جورج بوش الأب شن حرب عاصفة الصحراء نفذ خلالها أبشع جريمة بالتاريخ في تدميره لملجأ العامرية ببغداد حيث قُتل 400 مدني عراقي نساء وأطفالا تحت تبرير واه بأنه مركز قيادة عراقي، في حين أثبتت الوقائع أن الطائرات كانت تراقب الملجأ قبل قصفه بعدة أيام. كذلك سحق قطعات الجيش العراقي المنسحبة من الكويت.
في عهد بيل كلينتون الديمقراطي أقر الكونغرس الأميركي قانون تحرير العراق ومنح المعارض العراقي لنظام صدام أحمد الجلبي 55 مليون دولار لتغطية عملياته المسلحة المزعومة داخل العراق، وشن الرئيس كلينتون حرب ثعلب الصحراء عام 1998 بضربات صاروخية دمّرت مراكز الطاقة الكهربائية والاتصالات واستهدفت بيت الفنانة العراقية ليلى العطار حيث توفيت مع زوجها.
هذه هي ديمقراطية الولايات المتحدة تعززت أكثر في عهد بوش الابن في اجتياحه للعراق عام 2003 وملف الاحتلال يجيب على السؤال: لماذا اختار الرئيس بايدن الآن أن يُكرم نظام الفساد والقتلة ويختاره إلى جانب إسرائيل في قائمة الدول الديمقراطية بعد ثمانية عشر عاما من الفظائع التي شاركت في تنفيذها قوات الاحتلال الأميركي والميليشيات الإيرانية. هل يعيش بايدن عالم الواقع أم أنه أراد إهانة العراقيين في تزكية النظام القائم لصالح طهران؟
الساسة الأميركيون أسسوا نظاما في العراق على نمط أمثلتهم في صناعة الحكام في أميركا اللاتينية في الثمانينات. في العراق الحاكم بول بريمر لم يتردد في تصريحاته الأخيرة في الكشف عن اعتزازه وتواصله المباشر بالمرجع السيستاني ثماني عشرة مرة خلال عام، أو في تعقيبه حول ديمقراطية الولايات المتحدة في صناعة حكم جديد في العراق قائم على استعادة حكم الشيعة الذي فقدوه منذ 1400 عام.
المثال الأكثر قباحة وتعدّيا على القيم والمُثُل الديمقراطية تعيين جون نيغرو بونتي سفيرا أميركيا في بغداد بعد بريمر (2004 – 2005) خلال فترة ما عرف بفرق الموت، وهو المعروف بإشرافه على مثيلتها في نيكاراغوا حين كان سفيرا بهندوراس (1981 – 1985) وفق تقارير صحافية أميركية.
هل بايدن بحاجة إلى المزيد من الملفات الاستخبارية والمعلوماتية العامة ليقتنع بأن من يدير الحكم في بغداد مجموعة من الفاسدين وسراق ثروات العراق، لا يمتلكون أي صلة بمفاهيم الديمقراطية وقيمها في حكم المواطنة وليس الدين أو المذهب.
بايدن في مؤتمره الافتراضي ابتعد عن جوهر الديمقراطية التي تعلّمها الساسة الأميركيون الجدد من أجدادهم الأوائل، حين برر الانحرافات الخطيرة التي استخدمت الشعار الديمقراطي غطاء للقمع والفساد والطائفية. وأقرب وأبشع مثال دعمه للنظام الفاسد القائم في العراق، ووصفه له بأنه ديمقراطي. لقد خذل شعب العراق في هذا الانحراف الخطير عن المبادئ الحقيقية، بدلا من إنصاف العراقيين والانحياز إلى قضيتهم في الحياة الحرة الكريمة.
بعد نصف قرن وأمام التراجع الأميركي التاريخي عن الالتزام بقضية الديمقراطية، على بايدن الانتباه سواء واصل قيادته للولايات المتحدة أم سقط في منتصف الطريق إلى أن شعوب العالم المقهورة وفي مقدمتها شعب العراق يقيمون للمسؤولين الأميركان محاكمة افتراضية دائمة مقابل التسويق الزائف ترفض التبريرات الواهية في مساندة حكام مستبدين فاسدين، معتمدة على قواها الذاتية. عصر العولمة الجديد الذي صنعه الانسان في الولايات المتحدة الجديدة اُنتزع من يد القاتل وأصبح سلاحا بيد الضحية.