بقلم: مها محمد الشريف – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – يعتقد هالفورد ماكندر (1861 – 1947) البريطاني الأكثر تألقاً، صاحب نظرية المحور الجغرافي للتاريخ، واضع نظرية قلب اليابس، الذي يؤكد أن الوضع الأفضل لكل دولة هو الوضع المتوسط المركزي، والمركزية مفهوم نسبي يتبدل مع كل سياق جغرافي… يعتقد أن القارة الأوراسية تقع في مركز العالم ويقع مركزها في قلب العالم وهذا هو رأس الجسر الجغرافي، وبهذا الرأي تحتل روسيا في هذا العالم موقعاً استراتيجياً. وقد حارب ماكندر طويلاً لكي يُقنع الساسة البريطانيين بنظرياته.
فليس من النادر أن تعود هذه الأزمة من جديد لأن جذورها ضاربة في العمق السياسي الروسي، والانقسام إذاً على هذا النحو سياسي ثقافي اقتصادي وعمقه في أزمة الهوية التي يعيشها البلد منذ استقلاله في عام 1991 بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، فليس هناك مجال للشك في أن أوكرانيا بلد متعدد الإثنيات والأعراق والأديان واللغات، وهو منقسم بين شرق يتكلم سكانه الروسية ويرون في روسيا بلدهم الأم، وبين غرب يتكلم اللغة الأوكرانية ويدعو إلى الانضمام لأوروبا.
من جهتها، تطالب روسيا «الناتو» بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا للحلف الأطلسي، وأن يُلغي رسمياً قراره الصادر عام 2008 بفتح الباب أمام انضمام جورجيا وأوكرانيا، مشددةً على تقديم ضمانات لموسكو بوقف توسع التكتل العسكري شرقاً الذي يصبّ في مصلحة الغرب، فهل تستجيب أوروبا لهذه المطالب، أم أن روسيا ستغزو هذه الدولة وتكون نواة لحرب عالمية ثالثة؟
إن أوروبا اليوم مع أزمة أوكرانيا تعيش واحدة من أعقد أزماتها وأصعبها منذ نحو سبعة عقود. بل إن الأجواء الحالية وصفها بعض ساسة أوروبا بأنها شبيهة بنفس الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، ولم يكد يمضي وقت طويل على الأزمة حتى تعززت محاصرة الأحداث على هذا الشكل وتحدد موقعها كمنعطف تاريخي إذا اختلفت الرؤية المستقبلية للخريطة السياسية، وإذا تقاطعت وتعارضت مع أهدافها، فروسيا ترى أن رفض الأمين العام لـ«الناتو» طلبها منع أوكرانيا من الانضمام للحلف، يشكل اضطراباً عميقاً تجتهد أوروبا في تخريبه، وستدخل الكثير من الدول في حرب أكثر اضطراباً، فكيف للمرء إذن أن يثق بقوى متناقضة ومتصارعة، ويحث على التزام الموضوعية قدر الإمكان بين القوى العظمى، حتى بعدما عقد الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن قمة افتراضية طلب خلالها بوتين ضمانات مكتوبة بعدم توسع الحلف الأطلسي باتجاه الشرق؟ فهل تسمح روسيا بالاندماج الأوروبي الذي يشكّل «أولوية» لأوكرانيا واحترام «الخيار الأوروبي»؟
ولكن كل المؤشرات تنذر بالرفض، وأمام هذا التصعيد نقلت روسيا نحو 100 ألف جندي إلى مناطق قريبة من الحدود الأوكرانية، وسط مخاوف غربية من هجوم عسكري روسي محتمل بنهاية يناير (كانون الثاني) المقبل، فهل بوتين يقرع طبول الحرب بعد إرسال قواته على الحدود.. وعلى الرغم من أنه لم يتطرق لأي مخططات لشن أي هجوم، إلا أنه شدد على أن بلاده تملك حق الدفاع عن أمنها، فما عواقب تدخل روسيا عسكرياً في أوكرانيا؟ وهل هناك مزيد من اتساع المدى لهذه الأزمة من التعقيد، أم أنها ستظل في نهاية المطاف تكرارية دائرية ذات طابع متعدد الصلات بالعالم الموجود في الملعب الأوكراني، وتتصدر الواقع وتنافس بما لديها من حماية ومجهود مستمر تبذله من أجل أن تصوغ تعريفاً لنفسها وتختار مَن تريد وتَحول دون استحواذ أحد عليه منها كدولة ذات سيادة؟
إن العالم اليوم يتجه اهتمامه نحو الكرملين الذي يطلب من أوروبا الكف عن تحميل موسكو مسؤولية «كل المشكلات» في قضيتَي أوكرانيا وبيلاروسيا، بعدما أعلنت كييف، أنها تسعى للحصول على مساعدات عسكرية إضافية من حلفائها الغربيين الذين أعربوا عن قلقهم حيال تحرّكات القوات الروسية عند الحدود من جهة، ونزاعهم مع انفصاليين مؤيدين لروسيا من جهة أخرى، وأظهرت الكثير من الصور مؤخراً تحرّكاً روسياً بقوات ودبابات وصواريخ باتّجاه الحدود الأوكرانية، ما أثار القلق من احتمال حدوث تصعيد في النزاع.
لقد صرح وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا بالقول «ازدادت عدائية روسيا الدبلوماسية والعسكرية بدرجة كبيرة في الأسابيع الأخيرة». وقال للصحافيين إن «أوكرانيا تعزز تعاونها مع حلفائها بشكل نشط لمواجهة التهديدات». فهل يهدف من وراء إطلاق هذا التصريح إلى طمأنة أتباعه القلقين، فالوزير الأوكراني يؤكد والرئيس الروسي ينفي، من هنا نتساءل أيضاً: هل روسيا قادرة على الربح من دون خسارة؟ لأن كثيراً من التحولات غالباً ما تكون خطيرة وتحمل المزيد من الأزمات، وليس بالإمكان تقييم نقاط قوة بوتين ونقاط ضعفه، فالانهيار أشد فتكاً من الهيمنة.