بقلم: أزراج عمر – النهار العربي
الشرق اليوم – هل ستحدث زيارة وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان للجزائر انفراجاً نوعياً في العلاقات الجزائرية – الفرنسية في المدى القريب؟ وهل سيؤثر تهديد زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان الجالية الجزائرية في فرنسا في هذه المبادرة؟ أم أن الجانب الجزائري لا تهمه هذه التحركات الفرنسية، ويصر على أن يمضي قدماً على طريق فكّ الارتباط بالسلوك الفرنسي الذي ما فتئ يصدر عن الثقافة الاستعمارية حتى الآن؟
خلال الأسبوع، اعتبر مراقبون سياسيون جزائريون زيارة وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان للجزائر، يوم الأربعاء الماضي، بمثابة محاولة فرنسية أخرى للتهدئة مع صناع القرار داخل أجهزة النظام الجزائري، وذلك من أجل التمهيد لإعادة العلاقات بين البلدين إلى ما كانت عليه قبل تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي شككت في وجود الدولة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي.
في هذا السياق، هناك من وصف قرار السلطات الفرنسية الذي اتخذ بسرعة، وبعد يومين فقط من هذه الزيارة، رفع السرية عن أرشيف “التحقيقات القضائية” التي عرفتها مرحلة الثورة التحريرية الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، بأنه مسرحية للقفز على الخلافات الحقيقية حول ملف مصالحة الذاكرة والقضايا العالقة الأخرى بين الجزائر وفرنسا.
ورغم استقبال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الوزير لودريان، ولقاء هذا الأخير لساعات طويلة رئيس الدبلوماسية الجزائرية رمطان لعمامرة، ورغم الاهتمام الإعلامي الجزائري بقرار فرنسا رفع السرية عن أرشيف التحقيقات القضائية المذكورة آنفاً، يلاحظ أن الطرف الرسمي الجزائري لم يتفق مع الإدارة الفرنسية حتى الآن على أي صيغة ملموسة لبدء حوار ثنائي، أو للاتفاق على جدول زمني محدد يمكن بموجبه فتح الأجواء الجزائرية للطيران الحربي الفرنسي ليواصل نشاطه في الساحل الأفريقي، كما لم يحصل أي اتفاق عملي بين الطرفين على مسألة كلاسيكية نمطية تتعلق بقضايا الهجرة، وبخاصة مشكلة المهاجرين الجزائريين على الأراضي الفرنسية بطرق غير شرعية، كما تردد السلطات الفرنسية باستمرار.
وفي هذا المناخ المتوتر بين البلدين، قامت مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف التي تعتبر المنافس الأول لماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، وغداة انتصار الفريق الوطني الجزائري لكرة القدم على الفريق المغربي في تصفيات “كأس العرب”، بتهديد مشجعي الفريق الوطني الجزائري الذين خرجوا إلى شوارع باريس للاحتفال بفوزه، بالعقاب والترحيل، واتهمتهم بنشر الفوضى في شوارع باريس وبالاعتداء على سيارات الشرطة الفرنسية التي قامت بمطاردتهم في جادة الشانزليزيه الشهيرة، وقرب قوس النصر ذي الدلالات الرمزية في التاريخ الفرنسي.
لا شك في أن هذه الأعراض التي تطفح إلى السطح وتعيد العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى مربع الصفر باستمرار، تخفي تحت جليدها خلافات جوهرية بين فرنسا والجزائر، بعضها له صلة بتشعبات ملف “مصالحة الذاكرة” وتعقيداته، وبالوجود اللغوي والثقافي الفرنسي التقليدي في الجزائر كما سنوضح أكثر لاحقاً، وبعضها له علاقة وطيدة بتوفير فرنسا الرعاية داخل جغرافيتها لعدد من المعارضين الجزائريين المطلوبين، جراء تهديدهم استقرار البلاد وأمنها الوطني، وفي الطليعة أشخاص يعتبرهم النظام الجزائري متطرفين ينتمون تنظيمياً إلى فصيل من الحراك الشعبي الذي يطالب بالرحيل غير المشروط للنظام الجزائري الحاكم، وكذلك عناصر حركة “الماك” الأمازيغية التي تصنّفها السلطات الجزائرية انفصالية، وبالتالي تنظيماً إرهابياً.
وفي خصوص ملف “مصالحة الذاكرة”، يبرز الخلاف الجزائري – الفرنسي الحاد في نقاط أساسية عديدة، في مقدمتها التباين بينهما حول الرؤية الواقعية الإجرائية لحل المشكلات المحيطة بهذا الملف على مدى ستين سنة تقريباً.
فالإدارة الفرنسية تدعو الجزائر إلى تحييد هذا الملف وإبعاده عن راهن العلاقات الاقتصادية والثقافية والأمنية بين البلدين، أما السلطات الجزائرية فترى أن ثمة ترابطاً عضوياً وضرورياً بين تصفية ميراث الاستعمار ومصير العلاقات الراهنة بين البلدين.
ويبرز التناقض الجزائري الفرنسي أكثر، لأن فرنسا تعتبر اتفاقات إيفيان الأساس المنطقي للحوار الجزائري – الفرنسي فقط، لتسوية مركب الأزمة المركزية التي ما فتئ يفرزها ميراث الاستعمار الفرنسي الذي دام قرناً وثلاثين سنة.
ولكن الجانب الجزائري يرى عكس ذلك، لأن اتفاقات إيفيان تصب في مصلحة فرنسا غالباً، وجراء ذلك يطالب بفتح كل الملفات ويدعو فرنسا إلى الاعتراف بجرائمها في الجزائر، بما في ذلك التجارب النووية وضحاياها في الصحراء الجزائرية أثناء الاحتلال الفرنسي، وبعد ذلك في فترة الاستقلال، والإبادات الجماعية للجزائريين، ونهب ثروات البلاد، وممارسات نفي المقاومين الجزائريين إلى الجزر النائية في كاليدونيا الجديدة وغويانا في أميركا الجنوبية، فضلاً عن إبادة ثروة الطبيعة الجزائرية بالنابالم ومختلف وسائل الدمار الشامل، وغيرها من صور التعذيب والقتل والمطاردات والاغتصاب الجنسي للجزائريات.
إلى جانب ما تقدم، فإن الجانب الفرنسي غير مرتاح إلى مواقف السلطات الجزائرية من الوجود اللغوي والثقافي الفرنسي في الجزائر، سواء تعلق ذلك بمنظومة التعليم الجزائرية التي ترى فرنسا أن المسؤولين عنها يسعون منهجياً إلى تعويض اللغة الفرنسية باللغة الإنكليزية، وكذلك العمل على شطب كل ما له صلة بالفرنسية في المحيط الجزائري العام. وفي هذا السياق، تعارض فرنسا عمليات الهدم التي ما فتئت تتعرض لها مكوّنات التراث الثقافي الفرنسي في الجزائر مثل المعمار الفرنسي، والأدب الفرنكوفوني الجزائري، والمجموعات البشرية التي تعتنق الديانة المسيحية وتمارس شعائرها، وهلم جرّا.
أما على صعيد مسرح العلاقات الدولية، فإن فرنسا كانت ولا تزال تنظر بعين الريبة إلى محاولات الجزائر الانفراد بتقرير مصير علاقاتها الدولية، بعيداً مما تسميه فرنسا مراعاة المسؤولين الجزائريين مصالح فرنسا. وتعتبر الإدارة الفرنسية ربط الجزائر علاقات قوية مع الصين وتركيا وروسيا بمثابة فرض منافسين مناوئين لها، بهدف إقصاء النفوذ الفرنسي في مستعمرتها السابقة.
وفي الواقع، فإن فرنسا تتابع تطور علاقات الجزائر المتنامية مع تركيا والصين وفرنسا خاصة عن كثب، وتصنفها من الناحية الاقتصادية والأمنية والعسكرية ضمن خانة التهديد المتنامي لأمن الضفة الأوروبية الشمالية التي تعتبر فرنسا نفسها زعيمة لها، بحكم مكانتها الريادية في الاتحاد الأوروبي، وعضويتها في الحلف الأطلسي ومجلس الأمن الدولي.