بقلم محمد المحمود – موقع الحرة
الشرق اليوم- مصير الزعيم النازي، أدولف هتلر، هل انتحر حقا أم تسلّل هاربا وعاش في مكان ما من هذا العالم، وخلّف أولادا وأحفادا، حتى مات حتف أنفه؟ هل هبط الإنسان فعلا على القمر؛ كما تقول وكالات الأنباء ومراكز البحوث الفلكية ومقررات التعليم، أم الأمر مجرد كذبة كبرى نسجها هؤلاء وهؤلاء لأمر ما؟
مَن اغتال رئيس الولايات المتحدة، جون كينيدي؟ (نُشر أكثر من ألف كتاب عن اغتياله 90 في المئة منها تدّعي وجود مؤامرة، من نائبه، أو من وكالة الاستخبارات الأميركية، أو من فيدل كاسترو، أو من مخابرات الاتحاد السوفييتي…إلخ) مَن قتل مالكوم إكس؟ مَن قتل مارتن لوثر كينغ؟ مَن وراء أحداث 11 سبتمبر؟ مَن قتل إسحاق رابين؟ هل مات ياسر عرفات مقتولا؟ ومَن قتله؟ هل مات مايكل جاكسون مقتولا؟
هذه نماذج لمواضيع ذات أصل واقعي، نُسِجت حولها كثير من نظريات المؤامرة. ليست المشكلة في الأصل الواقعي الذي يستلزم تفسيرا واقعيا مُتَساوِقا مع الأدلة الموثوقة والمعطيات العلمية للتفسير والتحليل، وإنما المشكلة في “الأوهام” التي تُحاول ردم “الفراغات المجهولة” في الحكاية، ومن ثَمَّ تنمية هذه الأوهام لتصبح غولا يلتهم الحقيقة من جذورها.
فنظريات المؤامرة تقوم على “تخيّلات حكواتيّة” تستعين ببعض المعلومات المتاحة، ولكنها ـ في المجمل ـ لا أساس لها من براهين العلم وحقائق الواقع.
ليست المشكلة في نظريات المؤامرة بحد ذاتها، فهي، كما يراها الصحفي، كريستوفر هيتشنز، إفراز لتوافر كثير من المعلومات لكثير من الناس، أي للناس الذين لا يملكون القدرة على تحقيقها وتحليلها، وإنما المشكلة أن هذه النظريات المؤامراتية تحظى بتصديق عدد كبير من الناس، ليس من الأوساط الشعبية المُهملة التي يتفشى فيها الجهل فحسب، وإنما، وبصورة أكبر، في الأوساط المتعلمة التي تكون أكثر عرضة للمعلومات المتكاثرة المتناثرة في مَدَى الوعي.
لقد انتشرت وازدهرت نظريات المؤامرة خلال القرن العشرين وأوائل هذا القرن، لأن التعليم (الذي مَكَّن كثيرين من رصد وقراءة وجمع المعلومات) انتشر وازدهر، ولأن سوق الإعلام والأفلام المتخم بالحكايا ازدهر أيضا.
وبهذا أصبحت الحاجة ماسة لمن يفسر لهؤلاء المتعلمين كل هذه المعلومات والأخبار، على أن يكون تفسيرا بسيطا حكائيا مُشَوِّقا يُحِيل إلى “غيب” ما، ليتسقَ مع “الوعي الغيبي” الذي تنتمي إليه جماهير المتعلمين في العالم.
وفق ما نشرته “بي بي سي” فإن جامعة كامبريدج توصلت، عام 2015، إلى أن أكثر من نصف البريطانيين وافقوا على الأقل على واحدة من قائمة تضم خمس نظريات مؤامرة.
وكانت هذه النظريات تتراوح ما بين وجود مجموعة سرية تتحكم في الأحداث العالمية، إلى مجموعة أخرى تُؤمن بالكائنات الفضائية.
ويذكر، جوناثان غوتشل، في كتابه الممتع (الحيوان الحكّاء، ص133) أن استطلاعا أجري، في يوليو 2006، في الولايات المتحدة ظهر فيه أن 36 في المئة من الأميركيين يعتقدون أن حكومة الولايات المتحدة متورطة في أحداث 11 سبتمبر إما بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، عن طريق علمها بالحدث قبل وقوعه وسماحها بوقوعه، وأن هذا تجديد لنظريات المؤامرة السابقة حول بيرل هاربر.
كما أن 45 في المئة من الجمهوريين يؤمنون بأن باراك أوباما لم يُولَد في الولايات المتحدة، وأنه شيوعي يحاول تدمير أميركا.
هنا، نلاحظ الدافع اللاَّموضوعي واللاَّعلمي، أي الدافع الوجداني والعاطفي المبني على “موقف” مسبق.
فمعظم الذين يتّهمون حكومةَ بوش الابن بأنها متورطة بأحداث 11 سبتمبر بشكل مباشر أو غير مباشر، هم من الديمقراطيين (الحزب المنافس والمُضاد لحزب بوش الجمهوري).
وفي المقابل، فإن معظم الذين يتّهمون أوباما بأنه لم يولد أميركيا، أو أنه مسلم مُتَخّف، هم من الحزب الجمهوري المنافس والمضاد لحزب أوباما الديمقراطي.
إذا، وراء كل نظرية مؤامرة دافع ذاتي، لا علاقة له بالمعطيات الموضوعية أو العلمية للموضوع الذي تدور حوله نظرية المؤامرة.
وإذا كان من الواضح أن من يصوغ نظرية المؤامرة حول موضوع ما، لا ينطلق من فراغٍ تامٍ، أي ليست كل معلوماته التي يسوقها كاذبة تماما، فإنه يستثمر ما يُمكن من المعلومات المتاحة، لينسج من الحقائق الصغيرة المتناثِرة كذبةً كبرى، ليبني صرحا من الأوهام، صرحا مُرصعا ببعض جواهر الحقيقة.
فلا بد، في أي حكاية كاذبة، من حقائق مُسَاندة، ولكن هذه الحقائق المستخدمة لكسب ثقة البسطاء، يحدث أن يُضَاف إليها أضعافها من المعلومات الكاذبة أو المعلومات المُحوّرة، لتتلاءم مع “حكاية المؤامرة” التي يمنحها الخيال الجامح كثيرا من التشويق الذي سيستبد بألباب أولئك الحالمين الذين لا يملكون إرادة البحث الطويل والتحقيق العميق.
يقول جوناثان غوتشل: “تُعَد نظريات المؤامرة، المبتدعة بانفعال والمحبوكة بجنون، حكايات خيالّية في الحقيقة يصدّقها بعض الأشخاص. ويربط منظرو المؤامرة نقاط البيانات الحقيقية ونقاط البيانات المتخيَّلة في نسخة مُتماسكة ومُرضية عاطفيا عن الواقع .. فهي تبهرنا لأنها تبدع حكاية جيّدة .. وتُفرِّق بين الأخيار والأشرار بصرامة”. (الحيوان الحكّاء، ص128).
ضحايا التصديق بنظريات المؤامرة هم مشابهون إلى حد كبير لصانعيها وناسجيها بصدق (ولا يدخل في هذا من يصنعها قاصدا الخداع والتكسّب من ورائها، مع علمه التام بزيفها).
صانعو هذه النظريات وأولئك المُصدِّقون بها، المُروِّجون لها، هم من ذلك الصنف العاطفي، الذاتي، الذي لا يملك الحد الأدنى من الاستعداد للبحث الجاد عن الحقائق الموضوعية التي تندرج، بالضرورة، في سياق علمي له مناهجه المطردة، والمؤكدة بقوة الإجماع المؤسساتي، وبقوة النتائج الحيوية الموثوقة في مدى زمني طويل.
طبعا، التشابه هنا ليس تطابقا، فهناك فارق بين صانعي أوهام المؤامرة والجمهور المستهلك والمُصَدِّق. هذا الجمهور قد يكون ضحية بيئة غير علمية، أو نتيجة حشد عاطفي مُوَجّه، أو نتيجة لكليهما، وربما نتيجة لقصور في متوسط عمليات الإدراك (أي غباء) وهو العامل الأكثر حسما هنا.
ولكن صانع “وهم المؤامرة” قد يكون ضحية لاعتلالات أعمق على المستوى الشخصي وعلى مستوى الحاضن الاجتماعي.
يقول جوناثان غوتشل: “يبدو أن الاختلافات بين أوهام المرضى النفسيّين وتخيّلات منظري المؤامرة ليست بسيطة، إلى حدٍّ ما. ويبدو الذهان التوهّمي نسخة معطوبة من نمط الجوع نفسه الذي يقدّم لنا نظريات المؤامرة من أفراد أصحّاء عقليا، ففي نظرية المؤامرة، يكون لدينا عقل حكّاء يعمل في أسوأ أحواله”. (الحيوان الحكّاء، ص131).
هنا، كأنما يُحاوِل غوتشل رَدّ “ديناميكية اشتغال نظرية المؤامرة”، إنتاجا واستهلاكا، إلى ما يتجاوز حدودها كموضوع خاص، ليدرجها فيما هو أعم: في طبيعة الإنسان كـ”حيوان حكّاء”، أي في محاولة الإنسان البحثَ عن “قصة ما” وراء مجمل الظواهر الطبيعية والبشرية التي لا يستطيع فهمها.
ولهذا السبب (أي محاولة الإنسان فهم غوامض الظواهر)، صنع هذا الإنسان منذ فجر تاريخه عشرات الألوف من “الأساطير” ليضفي “معنى ما” على ما يجهله في محيط وعيه. وكانت لديه دائما، من حيث هو حيوان حكّاء، قابلية التصديّق للحكايات مهما كانت غير معقولة، وهي القابلية ذاتها التي تصنع بالضرورة الاستعداد لتأليف هذه الحكايات اللامعقولة!
إنكَ لو طرحتَ في المشهد العام ثلاث معلومات متناثرة: “حريق في مستودع”، و”مقتل رجل في الميناء”، و”القبض على ثلاثة مُهرّبين” فسيبدو الأمر مقلقا للمتلقي الجماهيري.
هذه ثلاث معلومات متناثرة، لا رابط بينها، فلماذا ظهرت في وقت واحد؟ انعدام الرابط الحِكائي يُفقدها قدرتها على الإغراء بالمتابعة.
لكن، عندما يأتي أحدهم، وبدافع من البحث عن حكاية أو عن معنى، فيربط الحريق، بمقتل الرجل، بعملية التهريب، فحينئذٍ تنشأ قصة ما وتتضح معالمُ معنى، ويصبح الأمر مُشَوِّقا، ويزداد التشويق عندما تربط الحكاية الصغيرة المبتكرة بـ”جهة ما متآمِرة” تتجاوز حدود أفراد العصابة المهربة.
وكلما تمدّدت علاقات الحكاية، ودخلت في مناطق غامضة وبعيدة وغرائبية، ارتفعت وتيرة التشويق وألهبت حماسَ الجمهور الغبي.
لكن، هل الجمهور الغبي وحده هو ضحية نظريات المؤامرة؟ أم هل يتحوّل حتى غير الأغبياء، لحظة التماهي مع الحكاية المُشوّقة، إلى أغبياء مؤقتا: حالة تخدير ظرفي؟
لأن غريزة الحكاية غريزة أصيلة في الإنسان، يرى جوناثان غوتشل أن المشكلة ليست في “الغباء”، بل في الحاجة الفطرية والغريزية إلى حكاية ما. يقول: “وليس التفكير التآمري حكرا على الأغبياء أو الجهلة أو المجانين، بل هو انعكاس لحاجة العقل الحكّاء القهرية إلى تجربة ذات مغزى. فنظرية المؤامرة تُقدّم إجابات مطلقة لِلُغْزٍ عظيم عن الحالة الإنسانية، لِمَ تكون الأمور بالغة السوء في العالم ؟ إنها تُقدّم حلا لمشكلة الشر بشكل أساسي”(الحيوان الحكّاء، ص134).
إنها حكايات كاذبة ولكنها مواسية دائما ببساطتها، ففوق هذه الحكايات؛ نجد أن الأحداث السيئة تقع لأن ثمة أشخاصا أشرارا يسعون لمطاردة سعادتنا، وبالتالي، يُمكِننا مقاتلة الأشرار وهزيمتهم إذا استطعنا قراءة القصة الخفية: حقيقة المؤامرة!
إذا استوعبتَ كلَّ ما سبق؛ لن يقلقك مستوى الغباء الجماهيري الواسع، لن تُصبح نظريات المؤامرة حول وباء كورونا وحول اللقاحات شيئا غريبا. ستعرف أن من الطبيعي أن تظهر مثل هذه النظريات، وأن تجد من “الجماهير” أعدادا هائلة لديها القابلية للتصديق بكل ما يُنافي العلم في كل تجلياته.
فإذا كانت حقائق العلم تحكي عن “فيروس” في تاريخ سلسلة طويلة من الفيروسات، وعن سلوكياته المتوقعة وِفْق هذا التاريخ، وعن إجراءات بروتوكولية علمية معتادة في مثل هذه الأحوال؛ فحقائق العلم هنا جامدة، خشنة، غير مُشَوِّقة لـ”الحيوان الحكّاء” الذي سيبحث عن سرديته المشوقة، عن حكايته المتخمة بالغوامض والأسرار ومؤامرات الأشرار.
وتماما، كما حصل مع هذا الفيروس والوباء عالميا، حصل ذلك في عالم العرب مع كثير من رافعي لواء القومية العربية، حيث نَسجت “نظرياتُ المؤامرة” الرائجة ألوفَ القصص عن مكائد الاستعمار خصوصا، وعن مُؤَامرات الغرب المتربّص عموما.
عكست هذه النظريات والحكايات المُشوّقة حالةَ “عالمٍ عربي” مُتَوَّهم، عالمٍ يتمتع أهله بالخيرية المطلقة، وبالوئام التام، وتتمتع أرضه بالثروات الهائلة المتنوعة، وبـ”عبقرية المكان”، في مقابل تلك الوحوش الغربية، في مقابل أولئك الأشرار الرابضين على الضفة الأخرى، وليس لهم من هَمٍّ إلا أن يحيكوا المؤامرات ليل نهار؛ بغية هزيمة وسحق وانتهاب هذا العالم العربي!
ولعل نظريات المؤامرة لم تزدهر وتنشط وتصبح حقائق راسخة رسوخ الجبال في أذهان العوام وأشباه العوام؛ كما حدث على أيدي مُنظّري الإسلاموية المعاصرة عموما، والإخوان المسلمين خصوصا.
فكبار منظري الإسلاموية هم في الوقت نفسه كبار منظري نظريات المؤامرة عن الغرب المسيحي الحاقد، وعن اليهودية العالمية التي تسعى للهيمنة على العالم، وعن الماسونية التي تشتغل على الإفساد المجتمعي والعقائدي لتمهيد الطريق لجحافل الغزاة!
وإذا كان الإخوان المسلمين من أشهر من صنع وروّج نظريات المؤامرة في العالمين: العربي والإسلامي، فإنهم في السنوات الأخيرة أصبحوا ضحية لها، أصبحوا موضوع مؤامرة أو متهمين بالمؤامرة، حيث احتل الإخوان في تصوّر الأيديولوجيات الشعبوية المناهضة لهم إلى “حكومة عالمية خفية” تمتلك قوى خرافية، حيث تُسيطر على معظم سياسات العالم، وتخترق أهم البرلمانات، بل وتُدير أكبر رؤساء العالم، وكل ذلك من وراء ستار.
وهذا يعني أن الوعي الشعبوي المناهض للإخوان مُصَاب بعدوى التصورات الإخوانية ذاتها التي تقع “نظريات المؤامرة” في صلب مشروعها الأيديولوجي.