بقلم: د. مصطفى الفقي – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – عندما احتلت القوات الأمريكية أفغانستان وأسقطت حكم طالبان في المرة الأولى مع مطلع القرن الحادي والعشرين – وذلك على إثر حادث 11 سبتمبر 2001 – سارعت الدول الغربية بإعلان عودة العلاقات الدبلوماسية مع الدولة الأفغانية وأعادت فتح سفاراتها في كابول، أما الفرنسيون فقد سارعوا بإعادة فتح مدارس الليسيه قبل إعادة فتح السفارة، ويعكس ذلك الموقف اهتمام الفرنسيين بنشر ثقافتهم وأسلوب تعليمهم وحرصهم على أن يكون وجودهم الثقافي مواكباً بل وربما سابقاً أيضاً على التوجه السياسي والعلاقات الدبلوماسية. ولماذا نذهب بعيداً؛ إن حملة نابليون بونابرت العسكرية التي لا ننكر أنها كانت نوعاً من الغزو البحري في ظل التنافس البريطاني الفرنسي على المستعمرات فيما وراء البحار، إلا أن الأمر الذي لا يختلف عليه اثنان أن تلك الحملة كانت ثقافية بامتياز، وهي التي أدت إلى النقلة الحضارية الأولى لمصر؛ عندما صحا المصريون في القاهرة على القنابل وتساقط «القنبر» عليهم، على حد تعبير مؤرخ ذلك العصر عبد الرحمن الجبرتي، فكانت تلك الصدمة التي أفاق عليها المصريون ونبهتهم إلى أطماع الرجل الأبيض في بلادهم.
ولكننا نعترف في الوقت ذاته بأن الحملة الفرنسية كانت هي بداية الصحوة لا في مصر وحدها ولكن في المنطقة كلها، فقد اصطحب بونابرت معه أكثر من مائة وستين عالماً في فروع العلم والمعرفة من مختلف التخصصات لكي يكتبوا عن تربة مصر وطقسها وحيواناتها وطيورها وعن كل ما يتصل بنواحي الحياة فيها، حتى صدرت الطبعات الأولى من كتاب (وصف مصر) لكي تكون قاموساً وثائقياً في مطلع القرن التاسع عشر، وظلت المعلومات التي احتواها ذلك الكتاب مرجعاً لأهم ما كتب عن مصر والذي لا يصل إليها إلا مجموعة كتب جمال حمدان بكل ثرائها الفكري الذي يكمل الثراء المعلوماتي لوصف مصر، فجاءت عبقرية المكان تتويجاً لكل الأبحاث والدراسات التي صاحبت الحملة الفرنسية ورصدت مناحي الحياة المختلفة في بلادنا..
إن ولع الفرنسيين بالثقافة أمر لا يخفى على أحد، فمراكزهم الثقافية منتشرة في أنحاء الأرض فضلاً عن مدارسهم ذات الشهرة الكبيرة، حتى أن التعليم الفرنسي في مصر يتفوق تاريخياً على نظيره الإنجليزي، والأمر ذاته واضح أيضاً في لبنان ودول المغرب العربي وبعض أقطار غرب إفريقيا، لذلك جاء ميلاد الفرانكفونية تتويجاً لذلك التصور. فلقد احتل البريطانيون مصر أكثر من سبعين عاماً بينما لم يمكث الفرنسيون فيها أكثر من ثلاث سنوات تركوا فيها بصمة لا تُمحى سواء في الآداب أو الفنون أو الدراسات القانونية والمجوعات المدنية والدستورية، وسوف يظل الأثر الفرنسي في الثقافة المصرية أمراً نعتز به، ويهمني هنا أنا أسجل ملاحظتين:
الأولى: هي أن الثقافة الفرنسية ليس لها وريث يمتد بها وينتشر معها، بعكس الثقافة الأنجلوسكسونية حيث ترى بريطانيا وريثاً شرعياً لها شديد الثراء واسع الإمكانات وأعني به الولايات المتحدة بكل إمكاناتها ومسؤولياتها، لذلك يأتي إحساس الفرنسيين بدورهم الثقافي الكبير من خلال الشعور المشترك لديهم بأنه لا وريث لهم ولا داعم لثقافتهم اللاتينية إلا هم بالدرجة الأولى، لذلك كان حرصهم على نشر التعليم الفرنسي شديداً وتقديرهم للثقافة الفرنسية بغير حدود.
الثانية: مازلت أتذكر عندما أقام الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران مأدبة عشاءٍ بباريس كنت أحد حاضريها وإلى جواري المخرج العالمي يوسف شاهين الذي كان صديقاً عزيزاً وعلى مقربة منّا الفنانة المصرية الفرنسية داليدا، وأتذكر أن ميتران قال نصاً: إن العلاقات بين مصر وفرنسا لاتبدأ بشامبليون – الذي فك رموز الحضارة المصرية القديمة – ولا تنتهي بالفنانة الرائعة داليدا أو المخرج الكبير يوسف شاهين. ويومها التفت إليّ المخرج العالمي وقال لي: لم أسمع جيداً هل ذكر اسمي؟ ولماذا هذا التصفيق؟ وكانت مثل هذه الملاحظات العفوية جزءاً من عبقرية ذلك الفنان الراحل، أما الفنانة داليدا فلم تندهش كثيرا من ذكر اسمها لأنها كانت على صداقة وثيقة بالرئيس الفرنسي الراحل ميتران.
وهذا بالطبع لا ينفي قسوة الاستعمار الفرنسي وقدرته على قهر الشعوب التي كانت تدفع من دماء أبنائها ثمناً غالياً للحرية والاستقلال، كما فعل الجزائريون الأبطال، فلا علاقة بين الثقافة والسياسة إلا ما ندر، ذلك درس علمنا إياه التاريخ وأدركناه عبر العصور.
الوسومالولع الفرنسي بالثقافة فرنسا مقالات رأي
شاهد أيضاً
مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟
العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …