بقلم: د. حسن أبو طالب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم- هل تفلح لغة الوعيد الغربية لمنع روسيا من غزو أوكرانيا، وهل سيكون الاستقرار الاستراتيجي العالمي على حاله إن أقدمت روسيا على هذا العمل العسكري الذي يراه الغرب خطأً استراتيجياً كبيراً، وهل ستؤدي العقوبات الهائلة التي تهدد بها واشنطن ودول مجموعة السبع إلى تغيير مواقف الرئيس بوتين؟ وماذا سيكون مصير أوكرانيا ذاتها؟ هذه بعض أسئلة، وغيرها كثير، تثور في ذهن المتابع للعلاقات الغربية مع روسيا؛ استناداً إلى الوضع القابل للتفجر بينها وبين أوكرانيا، والموقف الأميركي الصارم المتمثل في تهديد روسيا بعقوبات هائلة لم تحدث من قبل، إن أقدمت على غزو أوكرانيا. وهو تهديد تم التركيز مرة أخرى عليه في حوارات وزراء خارجية مجموعة السبعة التي عقدت السبت الماضي في ليفربول بشمال إنجلترا.
يلاحظ هنا، أن التغطية الإعلامية الدولية للقاء الافتراضي بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، ركزت على هذا التهديد، وكأن الحوار الذي استمر ثلاث ساعات لم يشمل أي موضوعات أخرى، أو أن الرئيس بوتين كان مستمعاً وحسب ولم ينبس بكلمة واحدة رداً على هذا التهديد، كما لم يتضح حتى من قِبل الإعلام الروسي حقيقة ما ركز عليه رئيس البلاد تجاه الموضوعات التي دار حولها لقاء الرئيسين، اللهم بعض المقولات ذات الطابع العام، أبرزها أن القوات الروسية – المحتشدة على الحدود مع أوكرانيا – هي في الأراضي الروسية، وليست هناك نية للغزو، وأن حديث الغزو كذبة غربية كبيرة، وأن حل المشكلة الأوكرانية مرهون بتطبيق اتفاق مينسك للعام 2015.
قبل لقاء القمة الافتراضية التي عقدت الثلاثاء السابع من ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أشارت تقارير روسية وغربية إلى مجموعة من القضايا التي يُفترض أن تكون محوراً للحوار بين الرئيسين، وجميعها تتعلق بالحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي العالمي، باعتبار أن البلدين يمتلكان أكبر عدد من الرؤوس النووية، ولديهما القدرة على الوصول بها إلى كامل الكرة الأرضية، وليس فقط الوصول إلى البلد الآخر، وأن من مصلحتهما عدم التورط في حرب قد تهدد وجودهما معاً. تشمل هذه القضايا مستقبل الأسلحة الاستراتيجية من الصواريخ والرؤوس النووية، ومنع عسكرة الفضاء، والأمن السيبراني، والدور العالمي للصين، ومفاوضات البرنامج النووي الإيراني، ومكافحة التحولات المناخية، إضافة إلى الأزمة الأوكرانية وما يمكن أن تلتزم به روسيا لإنهاء التوتر على الحدود المشتركة. الإعلام الروسي قبل القمة الافتراضية أضاف إلى هذه القائمة الطويلة من القضايا رغبة موسكو في الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة وحلف الناتو بعدم ضم أوكرانيا للحلف، وبعدم التوسع في اتجاه الحدود الروسية. وهي قائمة طويلة من الاهتمامات المشتركة وإن لم يكن تم النقاش حولها جميعاً، فمن المنطقي أن يكون بعضها قد نال قسطاً كبيراً من تبادل الآراء والتفاهم على خطوات أخرى في المستقبل.
ورغم أن الرئيس بايدن لم يعطِ موقفاً حاسماً بشأن الضمانات الخاصة بعدم تمدد حلف الناتو إلى شرق روسيا، باعتبار أنه قرار الحلف وليس قرار الولايات المتحدة وحدها، فإن الأمر لم يقف عند هذا الحد. فبعيداً عن لغة التهديد والوعيد، أوضحت التطورات اللاحقة وتصريحات الرئيس بوتين، أن هناك خطوات عملية تم الاتفاق عليها، من قبيل تشكيل لجنة أميركية – روسية لمتابعة الاتصالات بشأن القضايا الثنائية والمتعلقة بالاستقرار الاستراتيجي العالمي، ومناقشة مقترحات سوف تتقدم بها روسيا بشأن التسلح الاستراتيجي.
والواضح، أن قرار الرئيس بايدن إرسال مساعدة وزير الخارجية لشؤون أوروبا لكل من روسيا وأوكرانيا لبدء حوار بين البلدين، مع الإشارة إلى أن الحل السياسي يمكن تطبيقه عبر الالتزام باتفاقيات مينسك، تمثل موقفاً عملياً يعني اقتراب الموقف الأميركي من الرؤية الروسية بأن الالتزام باتفاقيات مينسك يمكن أن يزيل أسباب التوتر ويمنع الحرب. ومعروف أن هذه الاتفاقيات تم التوصل إليها بوساطة فرنسية وألمانية تلزم أوكرانيا بتطبيق نظام إداري يمنح بعض الأقاليم في دونباس ذات الأغلبية الروسية في شرق البلاد، حكماً ذاتياً موسعاً، وهي التي تخضع فعلياً لسيطرة انفصاليين روس منذ العام 2014.
القيادة الأوكرانية تتخوف من نموذج الحكم هذا؛ إذ تراه قد يتطور إلى حق المطالبة بالانفصال، ومن ثم تنسلخ أقاليم مهمة من السيادة الأوكرانية. رغبة أوكرانيا في الانضمام إلى حلف الناتو تُعدّ محاولة لردع أي عدوان روسي محتمل، وأيضاً وسيلة مضمونة للتهرب من تطبيق اتفاق مينسك، الذي تصر عليه موسكو.
الجهد الأميركي لتسهيل الحوار بين موسكو وأوكرانيا وإن ركز على تطبيق اتفاق مينسك، فإنه يصطدم من حيث الجوهر مع الالتزام الغربي المُعلن بضمان سيادة ووحدة أوكرانيا، وردع أي نوايا غزو روسية، فضلاً على توازنات داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري ترفض أي تنازل لروسيا. والمرجح أن الدور الأميركي بالوساطة بين موسكو وكييف يستهدف التأكيد على أن الحوار والدبلوماسية هما الأنسب، في حين يرسخ مفهوم الرئيس بايدن في التصدي للأزمات الدولية العاصفة عبر الدبلوماسية. كما يريد أن يكون الحوار مدخلاً لإقناع روسيا بتخفيف الحشود العسكرية تدريجياً، وأن تقبل بتعديلات في اتفاق مينسك حتى يمكن تطبيقه وبما يحفظ ماء الوجه للقيادتين في موسكو وكييف معاً. ولكن ليس من الواضح كيف يمكن لواشنطن أن تضمن التزام أوكرانيا بأي تعديلات على اتفاق مينسك.
الوضع السياسي في أوكرانيا بالنسبة لموسكو هو من صميم الأمن القومي الروسي، كما أن ضمها للحلف الأطلسي يمثل خطاً أحمر. وبعبارات الرئيس بوتين، فإن قبول موسكو تلك العضوية لأوكرانيا هو بمثابة جريمة لا يمكن اقترافها بحق البلاد على المديين القصير والاستراتيجي معاً. بمعنى آخر، أن تمدد الناتو نحو شرق روسيا قد يدفع إلى مغامرة عسكرية كبرى، ستكون فيها أوكرانيا أكبر الخاسرين. فالغزو الروسي إن حدث سيترتب عليه تقسيم جغرافي وانسلاخ أقاليم لا محالة في ذلك. تملص الناتو من أي التزامات بعدم قبول أوكرانيا عضواً، يضيف الكثير من المبررات لدى موسكو للتقدم نحو حلول عصيبة، مع استعداد لتحمل الثمن الاقتصادي مقابل حماية الأمن القومي، مع الرهان على الزمن في قبول الآخرين واقع ما بعد الغزو إن حدث. مثل هذا الموقف يمثل بدوره أحد تعقيدات الأزمة من جانب والوساطة الأميركية من جانب آخر.
من المهم هنا التذكير بأن الرئيس بايدن، أوضح لاحقاً أنه لن يرسل قوات إلى أوكرانيا، كما سحب وعده بزيادة تسليحها، ورفع فقط المعونة الاقتصادية إلى 300 مليون دولار. وهي إشارات قد تحفز موسكو على تغيير موقفها نسبياً، لكن يظل موقف أوكرانيا ومدى المرونة التي ستقدم عليها لتنفيذ اتفاق مينسك حتى ولو بتعديلات بسيطة هي العامل الأكثر حسماً في الحسابات الروسية من جانب، وفي حماية الاستقرار الاستراتيجي العالمي من جانب آخر.