بقلم: منى فياض – موقع الحرة
الشرق اليوم- عندما تلقيت كتاب الصديق نزار يونس بعنوانه المستفز: “الميثاق أو الانفكاك، الطائف ذلك المجهول”، كأنه يتوقع فشلنا في الحفاظ على لبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه، متهيأً للاستسلام. فهذا مطلب العاجزين عن مواجهة احتلال إرادة اللبنانيين وطرق معيشتهم؛ مع أني أتفهم دوافع الموقف كحل أخير أمام الرافضين للاحتلال.
لكن وبما أن تصاعد أعداد الرافضين لفكرة العيش تحت هيمنة سلاح الحزب الإيراني الخاضع لدولة ولاية الفقيه التي تتخذ الإسلام مطية لزعزعة أمن الدول، يدفعنا ذلك لتوظيف هذا الرفض في مقاومة سلمية وعدم الاستسلام للقبول بلبنان الصغير. وهو موقف البيان الصادر عن الاتحاد الماروني العالمي ورئيسه الشيخ سامي الخوري بمطالبته باستقالة الرئيس.
فاجأني أيضاً في الكتاب، يسارية المؤلف، وهو المقاول الكبير، وثورويته في سرد ما تيسّر من ذكرياته التي تدين النظام اللبناني وتقارنه مع تجربة سنغافورة، الجزيرة الصغيرة القائمة على: صفيحة تكتونية منخفضة تكسوها المستنقعات والتضاريس الصخرية، ذات مناخ استوائي رطب، ومعرّضة لهطول الأمطار الغزيرة وللرياح الموسمية؛ والمفتقرة كليا للمياه الصالحة للشرب وإلى الأتربة للزراعة ومواد البناء. بمساحة لا تتجاوز مساحة قضاء عكار.
كانت بريطانيا قد اشترت، عام 1824، الجزيرة المسكونة من قراصنة وبعض الصيادين، والحقتها بالتاج البريطاني، وجعلتها قاعدة للبحرية الملكية ومرفأ تجاريا. ما استدعى تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين متعددي الأصول: المالوية والإندونيسية والصينية والهندية وسواها. ومنهم البوذيون والمسلمون والمسيحيون والهندوس والسيخ والطاويون… فشكلوا خليطا بشريا متنوع الاصول والانتماءات الدينية والعرقية، ومتعدد اللغات واللهجات.
بدأت النهضة الفعلية في سنغافورة عام 1965 عندما انفصلت قسريا عن الاتحاد الماليزي الذي فرضه رئيس الاتحاد على الجزيرة البائسة التي ظن أنها ستشكل عبئا معيشيا على الاتحاد.
في هذه الفترة ارسلت حكومة سنغافورة بعثة إلى لبنان عام 1964، للاطلاع على صيغة نظامنا السياسي الطائفي الذي نجح اقتصادياً كما في إدارة التنوع الديني والثقافي، والتقاها المؤلف بحكم عمله في وزارة التصميم. وهي استفسرت عن “الصيغة اللبنانية” أو النظام السياسي، الذي يصفه المؤلف ساخراً: بـ”المعجزة” الاقتصادية التي كنا ندعيها، والتي كانت تُنسب إلى النظام الاقتصادي “الإباحي!!” كما يصفه، والقائم على تخلّي الدولة عن دورها ومسؤولياتها. مع أن المؤلف نفسه يمجّد ما نتج عن هذا الاقتصاد: “لم أعد قادرا أن أحبس دمع الحنين إلى ذلك الزمن الجميل، يوم كنا في أعمارهم نختال ونمرح في أبهى بقعة من هذه الدنيا وأعزّها، في وطن سمته الحضارة والذوق والجمال”.
لذا سنفهم أن غضب المؤلف من الانهيار الحاصل الآن جعله يقرأ الماضي بمنظار الحاضر، فيضخم السلبيات ناسباً إياها إلى النظام نفسه دون أن يهتم بالسياق التاريخي والسياسي والجغرافي الذي يثقل التجربة اللبنانية والذي لا يشبه سنغافورة إلا ببعض الأمور.
فهل الإدانة اليساروية المسبقة للنظام محقة؟ دون الأخذ بعين الاعتبار ثقل الممارسات المرتبطة بنمط العلاقات المتوارث عبر ما يسمى الزعامة التقليدية السائدة منذ مئات السنين، والقائمة على إرساء النفوذ في الحقل السياسي-الإداري والاقتصادي والاجتماعي عبر تقديم الخدمات لشبكة مصالح طائفية وعشائرية وعائلية؟
ثم هل أن الطائف الذي نتمسك به ونطالب بتطبيقه، نزل علينا هبة من السماء! أو أنه نتيجة عمل دؤوب لرجال قانون أنجزوه كمحصلة لتجاربنا الممتدة منذ تأسيس لبنان الكبير إلى حين وضعه في نهاية الثمانينيات!! وهو الدستور نفسه مع بعض التعديلات مع الميثاق؟
استنتج المؤلف “أن البعثة لم تجد في تجربتنا المتعثرة والفوضوية، ما قد يصلح لبلادها التي تواجه أوضاعا أكثر صعوبة واشد تعقيدا من واقعنا المأزوم”. مع أن العكس صحيح.
برأي الكثيرين، وعلى ضوء النهج الذي اتبعته سنغافورة، لا شك انها استفادت من التجربة اللبنانية ومن الوصيّة التي زوّدها بها رئيس اللجنة في الوزارة، الدكتور محمد عطالله، لتفادي الوقوع في المحاذير والأخطاء التي وقع فيها لبنان، إن على صعيد “الصيغة الطائفية” التي حالت دون وحدة المجتمع واستقراره، أو على صعيد التخطيط للنهوض الاقتصادي والاجتماعي وتوافر المرتكزات الموضوعية للتنمية والاستثمار في المشاريع المنتجة.
فلماذا نجحت سنغافورة وانهار لبنان؟
ليس لسنغافورة تاريخ ممتد لآلاف السنين ولا خضعت لسلطة الخلافة العثمانية لمئات السنين ولا تعرضت لسلسلة من الاحتلالات المتعاقبة، ولا ضمت طوائف ومذاهب لها تجارب متباينة في علاقتها البينيّة أو بالسلطة المركزية للسلطنة أو بدول الانتداب. أعطت هذه التجارب أفضلية لصالح الموارنة بسبب الإرساليات التي أعطتهم تعليما ممتازاً، فيما المسلمون يحاربون مع الإنكشارية. فكان لهم الأولوية في تسلم زمام الإدارة عند نشوء الدولة اللبنانية. هي ظروف ولّدت لدى الموارنة اعتقادهم الراسخ بأن لبنان أنشئ لهم. الأمر الذي ينتقص بديهياً من المساواة بين المواطنين.
ولقد عبّر المؤلف عن وعيه للمشكلة عند استعادته لذكرى حادثة حصلت معه عند كتابته موضوع إنشاء بمناسبة الاستقلال بروحية الأدبيات السائدة عند الموارنة. وطُلب منه إلقاءه في الصف، فصفق له الجميع، ما عدا صديقه المسلم من آل حسامي، الذي علّق حزينا: |كلامك جميل لكنه لم يطربني، لأنه عن وطن الموارنة، الذين لهم فيه كل المناصب والثروات، فكيف ابتهج لكلامك عن وطن لا يحق لي أن اكون فيه مثل أي واحد منكم رئيسا أو قائدا للجيش؟”.
وعبر معرفتي البسيطة بالتجربة السنغافورية، ولحسن حظها لم تقع تحت طائلة حكم عسكري أو ملكي برغم أنها كانت مستعمرة بريطانية، وليس بين أبنائها من يعتبر أن له أفضلية على الآخرين؛ بل تمكنت من وضع نظام انتخابي ديمقراطي نزيه كانت قاعدته الرقابة والشفافية والمساءلة ووضع سلطة الشعب فوق أي اعتبار. مما جنبها الصراعات الحزبية والطائفية وأسس لبناء مجتمع قوي مترابط يضمن المساواة والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير للجميع، واعتمد الكفاءة، بدل الزبائنية، كأساس للاختيار في كافة مستويات الوظائف.
ولقد اشتهر رئيس الحكومة “لي كوان يو” الذي قام بهذه الانجازات بنزاهته، لكن الغرب انتقده واعتبر انه يقلص الحريات المدنية.
لبنان حظي بـ”لي كوان يو” خاصته، لكن عبقرية رجل واحد لا تكفي للنهوض بأمة إذا لم تتوفر الشروط الموضوعية المساعدة سواء كانت تاريخية أو سياسية أو لوجستية وجغرافية. فلم يكن ينقص فؤاد شهاب لا الرؤية ولا الإرادة ولا النزاهـة لكنه فشل لأنه رفض أن يمارس دكتاتورية يبدو أنها مطلوبة في مرحلة معينة ولدرجة معينة للقضاء على الزبائنية كوسيلة في إدارة الحكم.
كما لم تتعرض سنغافورة لنتائج احتلال إسرائيل الكارثي لفلسطين ولا تحملت اللجوء ولا انقسم المجتمع بسبب اتفاق قاهرة واستقبال مقاتلين غير خاضعين للدولة، ولا تعرضت للاحتلال الاسرائيلي وللحروب التدميرية ولا للوصاية السورية ولا لحرب 2006 ولا أعلنت إيران انها تحتلها.
تذكرني نشأة سنغافورة بنشأة أميركا كما قرأها دو توكفيل، فميزة المجتمع الأميركي الوليد أنه احتفظ بالأنظمة الاخلاقية لمؤسسيه المهاجرين الأوائل، وتغليبهم مفاهيم الحقوق ومبادئ الحرية الحقيقية أكثر مما تفعل غالبية الشعوب حتى الأوروبية. وهذا يظهر تأثير الذهنية العميق على طريقة تطور وسير الأمور في مجتمع ما أو جماعة عينة.
ما يورده المؤلف صحيح في معظمه، لكنه يستدعيه عبر الذكريات، معتقداً انه يحتفظ بها كما هي، بينما تقول الأبحاث العلمية إن ذكرياتنا تتغير لأنها تخص حالة الدماغ في وقت مضى، ونحن إذ نعمل على استدعائها مجددا يكون دماغنا في حالة راهنة مختلفة. تذَكُّرنا في الحاضر للماضي ليس سجلاً مخلصاً وإعادة بناء ذكرياتنا لا يعني أنها كلها صحيحة.