بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم- كان الهجوم الذي تعرّضت له شخصياً خلال الفترة الماضية، بصفتي رجل أعمال “يُحرّم” عليه الخوض في السياسة، والذي حصل إثر نشر إحدى المقالات السياسية التي قدمت فيها –أو بالأصح أعدت التذكير برؤية واقعية قابلة للتطبيق في حلّ إحدى أهم قضايانا العربية (القضية الفلسطينية)– عاملاً نبهني إلى لزوم إبداء رأيي في إشكالية مفهوم السياسة وعلاقته بممارستها، وفي الكشف عن طبيعة تعدد مستويات العمل فيها، وإلى لزوم تشريح الخلل الرئيس الذي يصيب مجمل حياتنا نتيجة غموض مفهوم “العمل السياسي” ومن ثم إخفاقه.
كما سيقودني هذا الأمر، وانطلاقاً من الخلفية المهنية، إلى تناول العلاقة بين السياسي ورجل الأعمال، وإلى نقد الصورة النمطية لعلاقة هذا الأخير بالسياسة، والتي جرى الترويج لها بناء على تجارب فاشلة في دول يطحنها الفساد والاستغلال، ولعلي أيضاً ألفت النظر إلى ما يتعرض له الكثيرون من أصحاب الفكر المختلف في بلادنا العربية، وتأثير ذلك في تعطيل أي تغيير حقيقي ننشده جميعاً كشعوب عربية.
إن كان الجواب على السؤال: أحرام على رجال الأعمال خوض السياسة؟ بـ “نعم”، فإن ذلك يعني أن الناجين من هذا الذنب قلّة، وقد لا يكون ابتعادهم عن هذا الميدان المليء بالألغام تعالياً أو زهداً، بقدر ما هو خوف أو قلة دراية ومعرفة، فالسياسة عندنا نحن العرب خبز يتناوله الجميع، ويخضعون له شاؤوا أو أبوا، لكن ما نعانيه من فرض توّجه واحد أو نمط جامد من التفكير السياسي، سيجعل كل مغرّد خارج السرب عرضة لكل أنواع الاتهامات، وسرعان ما يقال له “دعِ السياسة لأهلها”.
فمن هم أهلها؟
يعود كل ما نعانيه من مشكلات في معظم بلداننا العربية إلى قصور في العمل السياسي بالدرجة الأولى، وفي فهم طبيعته ومستوياته بدرجة ثانية، فالسياسة في أحد تعريفاتها هي: إدارة الشأن العام بالاستناد إلى السلطة، أي أنها إصدار القرارات وإدارة شؤون المجتمع كافة. ولكن من السياسة أيضاً طرح الأفكار حول الشأن العام ومناقشتها وإبداء الرأي فيها، فمن الذي يصلح للعمل السياسي؟
هذا السؤال القديم لم يحظَ يوماً بإجابة متفق عليها بين جميع أو معظم المفكرين في العصور كافة، فقد رأى أفلاطون مثلاً، وهو أول من وضع نظاماً سياسياً، أن الفلاسفة هم أصلح الناس لتولي السلطة والحكم، لأنهم الأكثر قدرة على التمييز بين الخير والشر. لكن تاريخ الفلسفة بعده، أو تاريخ الفلاسفة وسير حياتهم بشكل أدق، أثبت أن جواز العبور للمجال السياسي، ومن ثم السلطة، لا يكون للأصلح، إنما للأكثر قدرة على تسلمها والحفاظ عليها، وحينها يمكن أن يستفيد من الفلاسفة كمستشارين ليميزوا له بين الخير والشر، وللحق فإن فلاسفة كثراً لم يلتزموا وصية أفلاطون في ضرورة توجههم للعمل السياسي، حتى عندما ساعدت الظروف في اقترابهم من الإمساك بزمام السلطة، فضّلوا أن يديروا لها ظهورهم.
لاحقاً بعد أفلاطون، وبعد أكثر من ألفي عام، بيّن ماكس فيبر في كتابه “رجل العلم ورجل السياسة” أن السياسي هو صاحب الشخصية الأكثر تأثيراً في “الرعايا” (الكارزمي)، وأن انتقال أنواع الحكم من النظام التقليدي القائم على الأعراف والتقاليد، وصولاً إلى السلطة الشرعية القائمة على القانون، أدى إلى ظهور نوع جديد من رجال السياسة أطلق عليهم اسم “رجال السياسة المحترفون”. ورغم وصفهم بالمحترفين، لا يشترط فيبر أن يكون لهم سابق معرفة بالسياسة، بل وربما لا طموح لديهم في الوصول إلى السلطة، لكنهم دخلوا عالمها بحكم قربهم من أهل الحكم، وهم في الغالب أصحاب ثروة شخصية مستقلة في الأساس، ما بجعل عملهم في السياسة ليس امتهاناً ولا سعياً للكسب، لكنه توظيف لخبرة مكتسبة، وفي السياق ذاته أكّد فيبر أن مهنة الصحافة هي من أهم طرائق النشاط السياسي المهني. ولا أعتقد أن الصحافة في عصره تشبه واقع الصحافة كما نعرفه اليوم، وإلا ما كان ليقول ما قاله على وجه التعميم.
كلُّهم أهلها
وعموماً.. تكاد لا تخرج الصفات التي يجب أن تتوافر في السياسي خلال عصرنا الراهن عن الإطار الذي وضعه فيبر، أقصد الكاريزما وقوة التأثير في الجمهور، بالإضافة إلى أن توصيفه لرجال السياسة المحترفين ليس مجرد رأي، بل أشبه بالقواعد المرنة التي ترتبط قبل كل شيء بالنتائج التي يحققها هذا الشخص على الصعيد السياسي. ويمكن من متابعة تجارب سياسيين ناجحين وعظماء بالنسبة الى شعوبهم، ملاحظة تباين الخلفيات المهنية أو المعرفية التي جاؤا منها، فالزعيم الهندي المهاتما غاندي كان زعيماً روحياً مؤثراً، ومثله الزعيم الوطني الأميركي مارتن لوثر كينغ، والرئيس الأميركي الذي يعد مهندس تفكيك الاتحاد السوفياتي رونالد ريغان كان ممثلاً، وقدِمَ دونالد ترامب من عالم الأعمال، ورغم أنه لم ينجُ من النقد، لكنه أثبت –في المجال الداخلي على الأقلّ– قدرة عالية على توظيف “عقلية التاجر” لتحقيق مصلحة شعبه، وهو ما شهدت به أستاذة علم نفس الإعلام في جامعة سالفورد شارون كوين قائلة: إن الواقع يشير إلى تحقيق رونالد ريغان ودونالد ترامب نجاحاً كبيراً في عالم السياسة.
وكيف لا ينجح رجال الأعمال في السياسة، ولا ترتفع مؤشرات أهليتهم للقيام بها، والسياسة في جزء كبير منها هي إدارة وتنمية موارد الدولة وتحقيق مصلحتها، وهي في جزئها الآخر صفقات، دبلوماسية كانت أو تجارية.. ناهيك بأن رجال المال والأعمال هم أيضاً أبناء مجتمعهم ودولهم يتأثرون بمشكلاتها ويعانون من أزماتها، ولهم في حلها آراء وتقديرات وأطروحات أكسبتهم إياها. هذا ما قد يدفع بعضهم للسعي إلى تولي منصب ما ليساعدهم على تحقيق رؤيتهم، أو إلى تقديم أفكارهم من خلال الكتابة، في محاولة للفت النظر إلى حلول غائبة – أو مغيبة- عن بال السياسيين المحترفين.
في الوقت نفسه، لا أنكر أن التخوف من خوض رجال الأعمال في السياسة مشروع في بعض الأحيان، بخاصة في البلدان التي تحكمها أنظمة استبدادية فاسدة، يتحالف فيها المال مع السلطة الفاسدة ضد الشعب فيتحول الحكم الى الأولغارشية. لكن تعميم هذا النموذج خاطئ، مثله مثل كل التعميمات، وسيؤدي إقصاء رجال الأعمال عن العمل السياسي أو عن الراي في السياسة لهذا السبب، الى ظلم كبير لهم، ولبلدانهم أيضاً.
من جهة أخرى.. لم تكن السياسة العربية يوماً حكراً على السياسيين الأكاديميين، بل كانت وما زالت مفتوحة أمام رجال الدين، الجيد منهم والسيء، أو القادة العسكريين الذين وصل بعضهم إلى السلطة بانقلابات قد لا ترضي الشعب كله. كذلك لم يُقفل حقل السياسة بابه أمام الإعلاميين والحقوقيين ودارسي الفلسفة وعلم النفس.. ولقد دخل معترك السياسة أيضاً أدباء وشعراء وعلماء.. فنجح بعضهم وفشل آخرون، إذ لا علاقة للدراسة ولا للتأهيل السياسي ولا للكفاءة أحياناً بهذا النجاح أو بحيازة رضا الشعب، فقد يأتي بسبب الألفة والثقة والإعجاب الذي يحوزونه لدى الناس، أو من ارتباطهم بالشعب واهتمامهم بقضاياه، أو مما يمتلكونه من كاريزما وقدرة على تقديم أنفسهم بطريقة صحيحة أمام الجماهير.
السياسة.. والقول في السياسة
بالنسبة الى الكتابة في السياسة والعلاقة القائمة بينهما، فالأمر يحتاج لدقة أكثر في تعريف من هم أهل السياسة. ينبغي أن نلاحظ بداية –وفي عالمنا العربي على وجه الخصوص– أن من يخوضون في السياسة من غير مسؤوليها إنما يتمتعون بحريةً أكبر في التعبير عن آرائهم من دون قيود المناصب والمسؤوليات، ومن دون وما يترتب عليها من ممنوعات ومحرمّات، إذ غالباً ما يكون الكاتب في السياسة مدفوعاً من وجهة نظر مختلفة مبنية على إطلاع ذاتي ومعرفة، وقدرة على التحليل المستقل عن معظم العوامل التي تحكم أهل السياسة، وتحدّ من قدرتهم على الحركة بالاتجاه الصحيح في أحيان كثيرة.
أما رفض رأي المشتغلين بالفكر السياسي ممن هم خارج السلطة، وغالباً ما يكون هذا الرفض مبنياً على الشخصنة أو الانقياد إلى النمطية، فيكاد يكون نتيجة حتمية لقولبة الفكر وتأطيره، ولتعطيل العقل ودفعه للامتثال الى كل ما هو سائد ومتفق عليه من دون نقد أو مراجعة، وهذا ما أدّى الى غياب الفكر السياسي ومفكريه الحقيقيين وقادة الرأي الواقعيين في معظم البلدان العربية في أحيان أخرى.
على الضفة المقابلة، لا تجد أن السياسي الذي يدخل عالم التجارة والأعمال يلقى الرفض نفسه، رغم أنه قد يفشل فيه سريعاً، وأدرك أن الفرق بين الضفتين كبير، إذ أن تبعات الفشل في عالم التجارة ستقع على رأس التاجر نفسه، وربما قلة قليلة من حوله، أما تبعات الفشل السياسي فغالباً ما تصيب الجميع، لكن ما أود التركيز عليه في هذه المقارنة هو أن هذا الادعاء بـ “حرمة” السياسة وعلّوها على الناس واستعصاءها على فهمهم، ليست إلا وسيلة لتعزيز استبداد فئة واحدة بغية الحفاظ على مصالحها، أو فرض طغيان وجهة نظرها بشكل دائم لوقايتها من أي منافسة جدية. ولقد أدى القول بحرمة السياسة على غير أهلها (أي اهل السلطة) إلى تعطيل حلول كثير من المشكلات والقضايا، وأحياناً إلى دفع هذه المشكلات الى مزيد من التعقيد والاستعصاء.
الإنسان “حيوان” سياسي
ليعذرني الذين قد تصدمهم هذه العبارة، ممن لم يعتادوا قراءة الفلسفة والوقوف عند ألفاظها، ورغم أنها قديمة تعود الى أرسطو في الأصل، فقد أعادت الفيلسوفة الشهيرة حنا آرنت تجديدها خلال القرن المنصرم، لتكشف عن العلاقة الجذرية جداً بين الطبيعة البشرية ومحيطها الاجتماعي (أي السياسة)، وأثر هذا المحيط في تحديد ماهية هذه الطبيعة وتكوين سماتها. لم تعتبر آرنت أن الإنسان سياسي بالطبع كما سبق واعتبره أرسطو، بل قصدت أن السياسة هي ما تشكل طبيعة الإنسان. بمعنى آخر، الإنسان ليس شريراً قاتلاً بطبعه كما ذهب هوبز، ولن يكفي قول ديكارت بأنه “حيوان مفكر بالطبع” لنكشف أبعاد طبيعته، ولا يمكن تعميم أنه خيّر بالفطرة كما عند لوك، تؤكد آرنت أن السياسة هي “المجال الأبرز الذي يحقق به الإنسان وجوده ويختبر حريته، السياسة هي باختصار “مسكن الوجود الإنساني”. أي أنها بيتنا جميعاً.
لذلك لا يمكن تبرير رفض خوض رجل الأعمال، أو أي آخر سواه، في الحديث أو العمل السياسي، ولا يجوز الحكم على “سلوكه” السياسي هذا قبل النظر في ما يقوله ويبديه من رأي، أو في إنجازاته على أرض الواقع، فالعمل السياسي يقوم على نشاط الفكر، والتروي وبعد النظر والقراءة الصحية للمتغيرات السياسية. وإذا أردت أن أتكلم من تجربة شخصية فأنا متأكد من أن أحداً لم يكن ليتحدث عن خلفيتي كرجل أعمال، ويطلب مني ألا أتدخل في السياسة، لو كنت أكتب بعقلية ترضي التيار السائد والسلطة التي توجهه وتتحكم به، وهي العقلية ذاتها التي لا يخرج عنها “كتاب وسياسيون” كثر في بلادنا، فهم إما يكتبون لأجل السلطة لا لأجل السياسة، وإما أنهم لا يستطيعون التفكير في السياسة خارج الصندوق الذي مازالوا يحبسون أنفسهم فيه.
يحضرني أخيراً قول شارل ديغول مؤسس الجمهورية الخامسة في الدولة الفرنسية: «لقد توصلت إلى نتيجة.. إن السياسة موضوع أخطر بكثير من أن نتركه للسياسيين». ذلك لأن كل القضايا في عصرنا هي قضايا سياسية، على حد تعبير الكاتب البريطاني جورج أورويل، وهذا يعني أنها تهمّنا جميعاً، صغيرنا وكبيرنا، العامل فينا والموظف والتاجر والعالم وبقية الفئات، وإن من ضمن حق التعبير الذي من المفترض أن يتمتع به كل إنسان، أن نشارك في الشأن العام، ونبدي وجهة نظرنا في السياسة التي تؤثر في حياتنا ومستقبلنا، وفي السلام الذي نرغب فيه بالفطرة، سواء أكان لدينا طموح سياسي أم كان تعبيرنا هذا محاولة للمساعدة ولفت النظر من زاوية رؤيا مختلفة.
عزيزي الذي قلت لي يوماً: “دع السياسة لأهلها”، مطلبك هذا يدفعني الى التخمين أنك أحد اثنين: إما رجل لا يعرف ما السياسة ومن أهلها، وإما رجل يدعي أنه أهل لها ولا يريد من يزاحمه عليها وهذا استبداد واقصاء!