بقلم: عادل بن حمزة – النهار العربي
الشرق اليوم – كان هلموت كول يصفها بالتلميذة، إنها أنغيلا ميركل المستشارة الألمانية التي غادرت السلطة في حفل عسكري استثنائي منتصف الأسبوع الماضي. غادرت ميركل السلطة بعد 16 سنة قضتها في أهم موقع للقرار داخل ألمانيا وداخل أوروبا أيضاً، نموذج ميركل يوضح أن عدم تحديد عدد الولايات في السلطة؛ قد لا تكون له دائماً جوانب سلبية، ففي الحالة الألمانية أثبتت التجربة أن عدم تحديد عدد الولايات في موقع المستشارية، أعطى لألمانيا استقراراً طويلاً في موقع القرار، فهيلموت كول بقي في الحكم من 1982 إلى 1998 وأنغيلا ميركل بقيت من 2005 إلى 2021.
وصلت ميركل إلى منصب المستشارية سنة 2005 خلفاً للاشتراكي غيرهارد شروردر كأول سيدة في المنصب بعد أضعف نتيجة يحققها الحزب الديموقراطي المسيحي منذ 1949، لكنها استطاعت أن تطبع بطابعها الخاص مسارها في السلطة سواء من حيث الأسلوب أم النتائج، فقد انتقل الدخل القومي الألماني من 2846 مليار دولار إلى 3800 مليار دولار، وانتقل الدخل الفردي السنوي من 34500 دولار إلى 45700 دولار مع دور أكبر لألمانيا على المستوى الدولي، لكن يبقى أهم ما تركته ميركل من أثر في مسارها السياسي، هو النموذج الذي قدمته عن الفاعل السياسي من زاوية القوة الأخلاقية، فإذا كانت السياسة لا تفسد الناس بل تكشفهم على حقيقتهم، فإن ميركل جسدت هذه المقولة على مدى 16 سنة في أرفع منصب سياسي في دولة من حجم ألمانيا.
لم تمد يدها للمال العام بل عاشت في شقتها الصغيرة برفقة زوجها وكانت في كثير من الحالات تنزل إلى السوق بنفسها وسط المواطنين العاديين، لذلك صفق الألمان في جميع أنحاء البلاد ستة دقائق تكريماً وعرفاناً لميركل وهي تترجل عن موقع السلطة غير ملتفة إلى الوراء، لأنها لم تجعل من السلطة غنيمة، كل ما يشغلها اليوم هو قلقها اليومي في ما يتعلق باتخاذ القرارات التي تهم بلادها، عزاؤها في ذلك كما ذكرت، هو أن هناك من سيعوضها ولن يكون أقل غيرة على ألمانيا منها.
عندما كان جدار برلين ينهار، كانت ميركل تحصل على شهادة الدكتوراه في الكيمياء الكمية، هذه الدكتورة القادمة من ألمانيا الشرقية أظهرت شخصية قيادية كبيرة في أهم الأزمات التي مرت على ألمانيا وأوروبا، بخاصة الأزمة المالية لسنة 2008 وأزمة المهاجرين، لقد أبانت عن شجاعة كبيرة عندما قررت فتح الحدود أمام ملايين المهاجرين، لم تخضع موقفها للحسابات السياسية والانتخابية الصغيرة، بل تصرفت بمنطق استراتيجي قائم على خلفية أخلاقية، وتصدت بشجاعة وبحس إنساني لليمين الشعبوي ولـ “دعاة الكراهية”… هذه العبارة كانت عنواناً وضعته صحيفة “دير شبيغل” الألمانية في عز أزمة المهاجرين لتوصيف زعيمة حزب “البديل من أجل ألمانيا” فراوكا بيتري، التي ذهبت إلى حد القول إنها تود نشر قوات مسلحة على الحدود الألمانية لقصف اللاجئين والمهاجرين السريين. بيتري التي تمثل إنبعاثاً جديدا لليمين المتطرف، بنت خطابها السياسي والإنتخابي على أزمة اللاجئين التي كانت تعاني منها ألمانيا وما زالت تداعياتها مستمرة إلى اليوم ومست شعبية ميركل وحزبها بعد قرارها إستقبال نحو مليون مهاجر، ورغم أن الانتخابات الجهوية التي أجريت في تلك الفترة قد أظهرت تقدماً لافتاً لحزب فراوكا بيتري التي استثمرت جيداً الغضب والخوف اللذين استقرا في نفوس عدد كبير من الألمان، فإن ميركل حافظت على قناعاتها ولم تلتفت الى المصالح الانتخابية الظرفية، وعندما جنح جزء من اليمين المتطرف للإرهاب علقت ميركل بأن الكراهية والعنصرية ومحاربة السامية مرفوضة في بلادها، وقد ظلت على تلك القناعة وهي توصي في خطابها الأخير مساء الخميس في الثاني من كانون الثاني (يناير) 2021 بضرورة “وضع حد لتسامحنا كديموقراطيين في كل مكان يتم فيه اعتبار الكراهية والعنف وسيلة مشروعة لتحقق مصالح ذاتية”، وواصلت ميركل في الخطاب ذاته: “أود أن أشجع على الاستمرار مستقبلاً في النظر إلى العالم بعيون الآخر، أي إدراك وجهات النظر التي أحياناً ما تكون غير مريحة ومتناقضة من الطرف المقابل، وأود أن أشجع على العمل من أجل توازن المصالح”، وفي الوقت ذاته، أعربت عن قناعتها “بأن بإمكاننا أن نواصل تشكيل العالم بشكل جيد إذا لم نقم إلى العمل وفي قلوبنا استياء وغيرة وتشاؤم بل بسعادة في قلوبنا”.
لم تلجأ ميركل لرفع شعبيتها وتحسين حظوظ حزبها إلى ركوب موجة اليمين المتطرف والشعبوي الذي يستثمر في التخويف من المهاجرين والإسلام، كما فعل بعض القادة الأوروبيين، بل حافظت على هدوئها ووضوحها حتى في تدبير موقع ألمانيا في عالم متعددة الأقطاب.
حكمت ميركل من دون خلفية إيديولوجية، وكانت تراهن على فعالية الدولة وقد نجحت طويلاً في ذلك، فإنها كانت تطرح أسئلة عميقة عن تحولات مفهوم الدولة نفسه، وبخاصة الحاجة إلى مقاربة جديدة للدولة ووظائفها أمام العوائق التي أضحت الممارسة الديموقراطية تفرزها في مسار اتخاذ القرار، لذلك إذا كان استقرار الحكم في ألمانيا قد انعكس على فعالية الدولة، فإن تلك التجربة وغيرها من التجارب في العالم الغربي تواجه باستمرار أزمة الفعالية في أداء الحكومات وهو موضوع بحوث علمية عنوانها البارز هو إعادة تشكيل مفهوم الدولة الذي يشكل موضوع كتاب “الثورة الرابعة: السباق العالمي نحو إعادة اختراع الدولة” الصادر في شهر أيار (مايو) 2014، وهو كتاب مشترك لكل من جون ميكلتويت رئيس تحرير مجلة “الإيكونوميست” وأدريان وولدريدج محرر الشؤون الإدارية في المجلة نفسها، حيث خلص المؤلفان إلى أن الغرب حافظ على تفوقه وقدرته الخلاقة بسبب نجاحه المتكرر في إعادة اختراع الدولة، ويمكن القول إن ميركل التي عاصرت أربعة رؤساء أميركيين، ساهمت في عملية إعادة الاختراع تلك بهدوء ومن دون أطروحات إيديولوجية صاخبة.
تغادر ميركل السلطة بشعبية عالية، تعود إلى بيتها كما كانت تفعل كل مساء، لم تعش السلطة كما يتوهمها البعض، الحاجة الوحيدة التي افتقدتها وستعود إليها بشغف كما قالت، هي القراءة ورفقة الكتاب… لقد كانت عنواناً للاستقامة السياسية وغادرت كذلك.