بقلم: حسن إسميك – جريدة إيلاف
الشرق اليوم– (لا يملك الشباب الحالي في الوطن العربي من وسائل وأساليب للمقاومة والتغيير سوى أصواتهم وشعاراتهم، يلقونها في الشوارع أو على منصات التواصل الاجتماعي).. تلك كانت خاتمة مقالي المنشور في الرابع عشر من يونيو – حزيران عام 2021 في جريدة النهار، تحت عنوان (الانتقال من الحراك الثوري إلى الحراك الاجتماعي.. حوار مع شبان عرب). طارحاً وجهة نظري في الوقفات الاحتجاجية والهتافات التي رفعها الشباب العربي في ساحات أغلب العواصم العربية في المشهد العام، تنديداً بالحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتدنية في أغلب تلك البلدان. لم أكن أدري وقتها أنّ خاتمت مقالي هذه، وبمحض المصادفة البحتة، سوف تتقاطع وبشكل كبير مع عنوان كتاب (العرب ظاهرة صوتية) للكاتب عبد الله القصيمي، فكلانا استخدم خاصيّة الصوت لتوضيح فكرته، رغم الاختلاف الكبير بين حالتي التفاؤلية ونظرته التشاؤمية. ولأنني أعتقد أن بعض المصادفات لا تمرّ مرور الكرام، الأمر الذي قادني إلى كتابة هذا المقال لمناقشة أحد أكثر الكتب الجدلية في الوطن العربي فور انتهائي من قراءته.
في الواقع، ليس الكتاب وحده، إنما مؤلفه أيضاً قد نال قسطه الكبير من الجدل، خاصة مع تأرجح حياته الفكرية ومؤلفاته ما بين الفلسفة الإسلامية من جهة، والفلسفة الحرة كما يحلو للبعض تسميتها من جهة أخرى، ما أدى إلى انقسام الآراء حوله بين مؤيد ومعارض، إلا أن ذلك لا ينفي أهمية ما تناوله بغض النظر عن الاتفاق معه أو عدمه. بالطبع، جاءت ولادة كتاب (العرب ظاهرة صوتية) في الفترة الحرّة من حياته، وهو الذي جعل اسم عبد الله القصيمي في متناول أهم الجدالات العربية لأعوام عديدة، لما حمل في طيّاته من نقدٍ لاذع وسخريةٍ كبيرة للحالة الفكرية والسلوك الحياتي المترديين في واقع الأمة العربية في وقت مضى. تُرى، هل ما تزال أفكار هذا الكتاب المنشور في باريس عام 1977، سارية المفعول حتى يومنا هذا؟ أترك لك عزيزي القارئ دعوة مضمرة للعودة لهذا الكتاب.
وسيجد من يستجيب لهذه الدعوة أن أهمّ وأولى الدلالات التي تشير إلى فحوى الكتاب، هي الفترة التي نُشر بها، حيث كان المناخ العربي متأثراً بهزائمه المتكررة مع إسرائيل إبان نكسة حزيران عام 1967م. لذا جاءت لهجة القصيمي مليئة بالغيظ والحزن والعار لما آلت إليه الأحوال العربية المتقوقعة على نفسها، والمقتنعة بأن كل ما حدث ويحدث في الوطن العربي ما هو إلا امتحان إلهي من جهة، ومؤامرة خارجية من جهة أخرى، مهملين بذلك النظر بعين المحاسبة والمساءلة إلى الأخطاء التي ترتكبها الشعوب والقيادات العربية على حدّ سواء. وتلك الذهنية الغريبة التي تعاني منها الأمة العربية قاطبةً، هي بالضبط ما جعلت الأمة العربية تعيش أحلامها الواهية، رافضةً الاعتراف بواقعها الضعيف والهشّ.
على طول الكتاب، تبدو واضحة لنا صرخة عبد الله القصيمي الخطابية والمليئة بالنقد اللاذع لجميع أطياف المجتمع العربي دون تفريق ما بين حاكم أو محكوم، أو شيخ ومريد، أو قائد ومنقاد، موجهاً لها كل أنواع التحذير لسلوكها الحياتي القائم على أنقاض الأمجاد القديمة والتراث المتأصل والمتجذر في الحالة الفكرية السائدة تارةً، والمتجاهل لأي صحوة تفكرية ممكنة على المدى القريب تارةً أخرى. كما يحمل هذا الخطاب الشامل من الجرأة الكثير، كيف لا؟ وقد تجرأ على وضع كل من الحاكم والقائد والمعلم والمثقف وحتى أصحاب العمامات الدينية والطائفية مع كل الناس القابعين تحتهم في هرم السلطة الاجتماعية، معتبراً أن “التصوّيت” (من الصوت – أي التفوه باللغة دون أية معاني عملية على أرض الواقع)، نقطة مشتركة لا يستهان بها بين الطرفين-الرئيس والمرؤوس.
يصرّح الكاتب بشكل علني في بداية الكتاب بأن جميع منابر التاريخ العربي على امتداده الواسع، قد بُليت باللغة المنمقة التي تحمل في صيغها الجهل والنفاق والأحلام الوردية لإعادة المجد القديم، عندما كان العرب متربعين على صهوة المجد يوماً ما. بمعنى أدق، إن العرب لا يملكون من المواهب إلا موهبة الكلام، فمن خلاله فقط يفعلون ويحلمون ويهددون وينتصرون على كل المؤامرات المحاكة ضدهم، ليتجاهلوا، بل لينكروا بذلك كل الهزائم والانكسارات على أرض الواقع. يعلّق الكاتب بشكل ساخر على هذه النقطة: (إن أسلحة العالم كله لا تستطيع أن تصنع شيئاً من الانتصارات التي تصنعها ألسنة العرب). إذن، تبدو اللغة في منظور عبد الله القصيمي وكأنها تجارةٌ لا تبور، تبيعنا سمكاً في الماء فقط.
وفي الحقيقة فقد مستني هذه المقاربة من كتاب القصيمي بشكل شخصي خلال الفترة القريبة الماضية، إذ نشرت مقالاً في موقع “فورين بوليسي” تحت عنوان “وحدّدوا الأردن وفلسطين – مرة أخرى”، أعدت فيه إحياء الدعوة للنقاش، وبشكل جدلي بحت، حول إحدى المسائل الرئيسة في الصراع العربي الفلسطيني، مسألة الضفة الغربية وعلاقتها السياسية والإدارية والاجتماعية بالأردن، والنظر في إعادة ضمها باتفاق دولي واسع، لكن من وجهة نظر معاصرة تقوم على توحيد الفلسطينيين والأردنيين في كيان سياسي جديد. ولا أريد أن أقول إن الطرح كان عميقاً وجدياً، بل تكفي شهادته لنفسه حيث استقطب اهتمام أحد أهم المواقع البحثية على مستوى العالم، وتناوله مفكرون وصحفيون بالنقد والتحليل والتعقيب.
لكن المقال نفسه أثار جمهوراً عريضاً من “المصوتين” بحسب تعبير القصيمي، والذين ملأوا بتعليقاتهم وسائل التواصل الاجتماعي، بعضهم قرأ المقال ولم يفهمه، وبعضهم الآخر قرأه وحرّف المقصود منه ليقولني ما لم أقل، وفريق ثالث سمع عن المقال ولم يكلف نفسه عناء القراءة، فانبرى يهذر حاقداً أو طامعاً، وفريق رابع اكتفى بشذرات نقلت بعيداً عن سياقاتها، وبنى عليه أحكامه المنقوصة وآراءه الموتورة، لينتهي هؤلاء جميعاً إلى الدفع بالاتهامات ضدي من كل نوع، ليس أقلها تهمة جهلي بالسياسة، وليس أكثرها تهمة خيانة العقيدة والوطن، ناهيك عن التجريم الذي أطلقه ضدي أفراد وهيئات، فطالبوا بمحاكمتي وتجريدي من جنسيتي الأردنية، لا لشيء إلا لأني قلت عكس ما يرغبون، أو فكرت وقلت بما لا يستطيعون.
لقد كان جهد هؤلاء ضدي من التعليقات والتصريحات والخطابات هو ذاته ما شكى منه القصيمي منذ قرابة نصف قرن: عبارات جوفاء، وكلام مجاني، واستصناع بطولات وهمية، والتشدق بقيم خطابية، لا ينتج عنها إلا زوبعة تثير الضوضاء وتصم الآذان وترهق العقول، ثم تتلاشى كأن شيئاً لم يكن. ولكن رغم ذلك، ومع انتهاء هذه الزوبعة إلى لا شيء، إلا أنها ستكون قد نجحت كما في كل مرة، واستطاعت قطع أي حوار عقلاني هادئ وعميق، وإدارة دفته من الجدوى إلى العبث، ومن النظام الى الفوضى، وتكريس الانشغال بسفاسف الأمور وصغائرها عن قضايانا العربية والإسلامية الكبرى التي أودت بالعقل العربي الى الاستقالة من التفكير والدخول في حالة من السبات العميق.
يؤكد القصيمي أن هذه السمة الصوتية ليست طارئة على المجتمع العربي أو وليدة أزماته المعاصرة، بل ضاربة في تاريخه منذ قرون مضت. وأضيف على ما قاله، أن هذه السمة كانت ملازمة لحضورنا الهامشي والغث على الساحة العالمية خلال الخمسة قرون الماضية.
خلال القرن الأخير، عانت أغلب مجتمعاتنا العربية كافة صنوف المعاناة، التقسيم والتجزئة من جهة، والاستعمار وحروبه من جهة ثانية، والاقتتال الطائفي والتناحر المذهبي من جهة ثالثة، والفقر وما يسوقه من جهل وتخلف وجريمة.. إلخ، ورغم عِظم هذه المشكلات وفداحة عواقبها، ورغم استمرارها وتعقد حلولها، ما زال العرب يراكمون الكلمات فوق الكلمات، والخطابات تلو الخطابات، ليغذّوا أوهامهم بالنصر القادم، والمجد والرفاه القادم، حتى لقد أصبح ماضي أغلب أقطارنا العربية أفضل من حاضرها، فكيف سيكون حال ما سيقدمه مستقبلها؟
وبالعودة إلى سياق موضوع مقالنا، لا يلقي صاحب نظرية “الظاهرة الصوتية” اللوم على اللغة وحدها ككيان بحد ذاته- رغم أن العربي يعيش في نشوة اللغة أكثر من الواقع، فاللغة ليست أكثر من أداة للتعبير يعيش فيها الشيء ونقيضه، ويُعبر بها عن الشيء ونقيضه. هي عبارة عن حروف وأفعال وأسماء، لكنها بنفسها لا ترفض أو تغضب ولا تمدح أو تذم. ببساطة إن اللغة هي الصورة المعنوية لشخصية الإنسان الأدبية، والصورة ليست مسؤولة عن نفسها. ولعل أحد التفاسير لهذه السلسلة المتواصلة من المنابر العربية المتشابهة في صيغتها اللغوية رغم اختلاف توجهاتها عبر التاريخ، يكمن بأن العرب في مختلف أجيالهم ظلوا متمسكين بهذا النموذج دون تغييره، أو حتى تصحيح مساره، وظلوا حبيسين ومنقادين لتلك الخصائص التي منحتهم إياها اللغة كفضاءات متوهمة يعيشونها ويرونها كل المجد والقوة. ذلك أن العربي الذي هلل للمعلقات القديمة وعنتريات المتنبي وأغلب القصائد التي سمت بالأجداد حدّ السماء دون غيرهم من الأجناس في وقت مضى، هو نفسه العربي الذي يهلل اليوم في كل وسائل وأجهزة الإعلام العربي لأي منبر يرسم البطولات والانتصارات من خلال تعصّبه العرقي وإقصائه الحاد لكل شيء ما عداه، وكأن الحضارة في إرثنا ليست سوى أصوات مجمّعة، تُعدّها الألسنة وتنفخها الأفواه، وترسمها في الهواء العبارات الرنانة.
وعليه، فقد الكاتب أمله ورجاءه في هذه الأمة التي تعيش على نوستالجيا الحضارة المفقودة ولا تقوم إلا بتكرار أخطائها ونماذجها عبر امتداد حيز وجودها الإنساني، لذلك مسك مطرقته الفولاذية ليكسر من خلالها كل المعتقدات والأخلاقيات والقوميات وبعض التابويات المتوارثة حسب نظره، والتي تسببت في تكلّس الحالة الفكرية وانتكاس الأدوار الحضارية لها. بالطبع، لا تخفى على القصيمي الأذرع الخارجية التي تمتدّ إلى الجسد العربي وتحيط به، لكنه يؤمن أكثر بالإنسان ودوره في استقبالها أو قطعها، فالمتآمر عند القصيمي لا ينجح إلا بتهاون واستسلام العرب، بل والانقياد التام له. وهنا تماماً، يقوم الكتاب بتوجيه أصابع الاتهام إلى العرب بجميع مستوياتهم، لأنهم لا يؤمنون بالفكر المؤسساتي القائم على العلم والانفتاح، وإنما يميلون إلى نماذج الاجتهاد الفردي ليصنعوا من أصحابها أبطال المرحلة، وكأنهم يصدقون قصة المارد الذي يحقق الأحلام برمشة عين.
وبقليل من التأمل ما بين الفترة التي تحدّث عنها القصيمي في كتابه هذا، وما بين الوضع الحالي الذي يعاني منه الوطن العربي على كافة الأصعدة، بل حتى أنّ حالة الانقسامات التي تعرّضت لها بعض البلدان العربية في أيامنا هذه لم تكن متواجدة آنذاك، يمكن طرح السؤال الآتي: تُرى هل التشابه هنا أيضاً محض مصادفة عبثية من الحياة؟ الإجابة عن هذا السؤال تشي بأنّ بعض الأخطاء لا زالت تُرتكب وتتوالد بيننا بشكل طبيعي وسلس دون أن ننتبه.
إذن، هذا الكتاب يدّق ناقوس الخطر من أجل التحرك بخطوات ثابتة نحو صحوة فكرية حقيقية، وقلب بعض المفاهيم في الذهنية العربية التي تقدّس الأقوال على حساب الأفعال، من أجل ركن الماضي وثقله جانباً للتخلص من أعبائه، والبدء في البحث والاهتمام بالحاضر والمستقبل، لأنه وحده من يملك مواهب الغد، يملك مفاتيح الحضارة التي تُعطي غيرها وتأخذ من غيرها.