بقلم: حسن مدن – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – على صلة بالسجال الدائر حول ما باتت شبكات التواصل الحديثة تشكّله من انتهاك للخصوصيات الفردية، وعلى ما بات تحت سلطة منصات عالمية مثل «فيسبوك» و«تويتر» وسواها من قاعدة بيانات مليارات، لا ملايين، من البشر، التي يمكن استخدامها لأغراض شتى، بينها الأغراض التجارية، لم يعد الباحث المصري الدكتور أحمد أبو زيد، فقط، إلى رواية جورج أورويل الشهيرة (1984) التي يراقب فيها «الأخ الأكبر»، عبر منظومة كاميرات، كل حركات وسكنات سكان المدينة، وإنما إلى مقولة تعود إلى الحضارة الإغريقية القديمة، ترجمت إلى العربية بـ«المراقبة الشاملة».
هذه العودة للمقولة الإغريقية من قبل أبو زيد وردت في كتابه «المعرفة وصناعة المستقبل»، الصادر في عام 2005 ضمن سلسلة «كتاب مجلة العربي»؛ أي أن أكثر من عقد ونصف العقد مر على صدوره، ولسنا بحاجة للقول إن العالم شهدت طفرات، لا طفرة واحدة فحسب، في تطور العالم الافتراضي بشبكاته ومنصاته المختلفة، وهي طفرات لا تنفي غاية الكاتب من وضعه لكتابه هذا، وإنما تؤكدها، حيث يبدو مستقبلنا في العالم الافتراضي لا الواقعي، أو دعونا نقول للدقة إن الواقعي والافتراضي سيندمجان في عالم واحد حتى لا نكاد نتبين ما الفرق بينهما، أو أين ينتهي أحدهما ليبدأ الآخر.
«إننا نعيش الآن في المستقبل، وإن ما كان البعض يتصورونه على أنه مستقبل أصبح حاضراً»، هذا ما ينقله أبو زيد عن الروائي الأمريكي ديفيد برين في كتاب صدر له قبل عقدين، بعنوان «مجتمع الشفافية»، ومن نبه إلى المقولة الإغريقية عن المراقبة الشاملة لم يكن أبو زيد نفسه، وإنما هو من نقلها عن مفكر وفيلسوف ومصلح بريطاني عاش في القرن الثامن عشر اسمه جيرمي بنتام، كما نقرأ في ثنايا كتابه المشار إليه.
بني هذا المصطلح على وصف لسجن يخضع لمراقبة دقيقة وشاملة من كبير السجانين الذي كان على خلاف بقية البشر يمتلك عدة عيون لا عينين فقط، وهذه العيون موزعة على كل جوانب رأسه وليس في الجبهة الأمامية فقط، ما كان يُيسر له مراقبة النزلاء في كل أنحاء السجن في وقت واحد، فلم يكن مضطراً لأن يدير رأسه نحو هذه الجهة أو تلك، كأن يلتفت يميناً تارة، ويساراً تارة أخرى، أو إلى الأمام تارة ثالثة، وإلى الخلف تارة رابعة، فيكفيه الوقوف في مكانه ثابتاً ليرى كل ما حوله في كل الجهات.
كبير السجانين الإغريقي سبق بكثير «الأخ الأكبر» الذي تخيّله أورويل، ورأى المستقبل «الذي نعيش فيه» قبل قرون من رؤية أورويل له.