بقلم: فاطمة لمحرحر – صحيفة “الجريدة”
الشرق اليوم – واكب تطور العلاقات الدولية المعاصرة، حاجة البلدان والمجتمعات إلى استراتيجيات جديدة للتعاون فيما بينها؛ وقد استطاعت القوى الكبرى في العالم التحكم في طبيعة ومضمون هذه الاستراتيجيات ورسم أبعادها وامتداداتها، وفي مثل هذه الظروف كان ينظر إلى دول الجنوب باعتبارها ساحة للاستقطاب الدولي لا عاملا مؤثرا، وأن دورها في مجال العلاقات الدولية هامشي لا يكاد يذكر في ظل الحرب الباردة التي كانت تقوم على أساس الصراع والتحدي العسكري بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
وإضافة إلى ذلك لاحظنا أن العالم عرف تغيراً كبيراً في بداية القرن الحادي والعشرين، خصوصاً ما يتعلق بقدرة كل بلد على التموضع أحسن؛ حيث أصبح العالم مجزأً وغير متكافئ ومتعدد الأقطاب، كما شهدنا وجود تباينات كبيرة بين أغنى البلدان وأفقرها.
وفي السياق نفسه نجد أن بعض الدول النامية حاولت ركوب موجة العولمة من خلال التعاون مع الدول الصناعية الكبرى على هيئة بعض المشاريع المشتركة، محاولة جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، لكنها أدركت أن المستفيد من ذلك هو الدول الكبرى، وهي الخاسر من جراء هذا التعاون، فانتشرت البطالة وانخفضت الأجور وعانت التضخم وارتفاع الأسعار… إلخ.
وقد أسهم هذا الوضع في رسم نظام اقتصادي عالمي جديد، تميز منذ منتصف القرن التاسع عشر، بتقسيم دولي غير متوازن للعمل، تظهر فيه أغلب الدول الواقعة شمال الكرة الأرضية مالكة لاقتصادات متطورة في المجالات الإنتاجية والتجارية، في حين اتسمت اقتصادات الدول الموجودة في جنوب الكرة الأرضية بالتخلف عن نسق التطور القائم؛ وهو ما أدى إلى تزايد الإحساس بالأهمية والحاجة لمزيد من التعاون والتكامل بين دول الجنوب على المستوى الإقليمي، كوسيلة لمواجهة التحديات العالمية المتزايدة، مما أسفر عن ظهور تكتلات إقليمية جديدة تسعى إلى تعزيز التعاون بين مكوناتها.
وبناء عليه، برزت الحاجة الماسة لدى دول العالم في الجنوب للتعاون والتوحد للمحافظة على وجودها، والتخلص من النتائج السلبية للاختلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاسعة لعلاقاتها مع بلدان الشمال. إن ظهور عالم الجنوب كجماعة محددة من الدول يعتبر ظاهرة معاصرة، عملت من خلالها دول الجنوب على بناء علاقات تعاونية فيما بينها، وهي ما يطلق عليه بالعلاقات جنوب- جنوب، حيث يتميز هذا النوع من التعاون بالعديد من الخصائص التي تجعله منه أسلوبا مختلفا عن أساليب التعاون التقليدية بالنسبة إلى الدول النامية التي تهدف إلى تحقيق تضامن وتعاون في مختلف المجالات، كالتجارة والاستثمار والتعاون المالي والتكنولوجي وغيرها؛ خصوصاً أن ميكانزيم التعاون جنوب-جنوب أصبح جزءا مهما من سياسة التبادل الدولي بالنسبة إلى كثير من البلدان الراغبة في رفع مستويات تقدمها الاقتصادي.
وإضافة إلى كل ذلك، يتبين لنا أن الدول النامية تواجه رهان تجميع شروط انطلاقها الاقتصادي في ظل واقع دولي يتميز بوجود فجوة عميقة وتفاوت صارخ في مستوى التطور بين العالمين المتقدم والنامي، بل إن هذا التفاوت موجود بين مجموعة الدول النامية ذاتها وداخل الدولة الواحدة.
هذا، ونلاحظ أن المميزات الجغرافية والاجتماعية لدول الجنوب تنعكس على بنية وهيكل اقتصاداتها، حيث تتسم هذه البلدان بالعديد من الخصائص الاقتصادية التي تميزها عن دول الشمال.
وانسجاما مع هذا السند المنطقي للتعاون جنوب- جنوب، حصل تأكيد متزايد من جديد لدعم التعاون الاقتصادي والسياسي بين دول الجنوب على المستوى الإقليمي وشبه الإقليمي، ففي جنوب شرق آسيا أدى إنشاء (رابطة دول جنوب شرق آسيا ASEAN)، إلى جمع أقطار متعددة لم تكن تشترك سابقا في أية مجموعة شبه إقليمية، إضافة إلى (رابطة الأمم لجنوب شرق آسيا).
ومن هذا المنظور، فقد شهدت الساحة العالمية في بداية الألفية الثالثة تطورا كبيرا، إذ تحول عدد كبير من البلدان النامية إلى اقتصادات ناشطة، تسجل أداء جيدا في النمو الاقتصادي والتجارة وتحقق تقدما سريعا في التنمية البشرية، في زمن يخيم عليه عدم اليقين، تدعَم هذه البلدان مجتمعة النمو الاقتصادي العالمي، وتنعش الاقتصادات النامية الأخرى وتغير وجهة الفقر والثروة على نطاق واسع، حيث ظهرت العديد من القوى الصاعدة في الكثير من مناطق الجنوب مثل، جنوب إفريقيا والبرازيل والصين وتركيا.
إضافة إلى ذلك، تتميز معظم بلدان الجنوب بوفرة كبيرة في العوامل الطبيعية والبشرية اللازمة لعمليات الإنتاج، وعلى الرغم من ذلك تبقى اقتصاداتها دائما غير متقدمة، بسبب عدم الاستثمار الأمثل لمواردها، وضعف قدرتها على توظيفها بشكل جيد، مما يجعل نواتجها المحلية في مرتبة متأخرة مقارنة بدول الشمال.
وفي الاتجاه نفسه ما زلنا نشهد أن هذه البلدان تواجه تحديات هائلة، فهي تعتبر حتى الآن موطنا للكثير من فقراء العالم، وقد أثبتت أن إطلاق الفرص التي يختزنها الاقتصاد يكون في تطبيق السياسات العملية والتركيز على التنمية البشرية، وهو ما تيسر لها في ظل العولمة.
وفي الأخير، لا بد من التأكيد أن بروز بعض الأقطاب الاقتصادية المهمة بين دول الجنوب جعل منها فاعلا رئيساً في الاقتصاد الدولي، وعنصرا مؤثرا في صناعة جغرافيا التجارة الدولية؛ حيث حققت معظم بلدان الجنوب تحسنا ملحوظا في حجم وهيكل علاقاتها التجارية مع العالم الخارجي، بشكل جعل من بعضها منافسا حقيقيا لدول الشمال على مستوى الأسواق الدولية.