بقلم: رستم محمود – موقع الحرة
الشرق اليوم- في كتابها الصادر حديثاً “العالم حسب الصين”، تورد الكاتبة، إليزابيث إيكونوميك، عدداً هائلاً من الأمثلة عن السياسات والقرارات والتوجهات الاستراتيجية التي تتخذها الصين طوال العقد الأخير.
وتحاول بكين إزاحة ومزاحمة النظام العالمي الذي تُسيطر عليه الولايات المُتحدة وحلفاؤها التقليديين، وخلق نظام عالمي بديل أو مواز، قائم على أساس مُلاقاة الأنظمة الحاكمة لعدد من الدول الهامشية والناشئة، من خلال خلق مُعاضدة سياسية واقتصادية معها، عبر مشاريع من مثل “مبادرة الحزام والطريق”، بحيث تقدم لأنظمتهم مجموعة من المحفزات الاقتصادية، على رأسها الحماية وحفظ الاستقرار، مقابل ما يوازيها من روابط وأشكال خضوع للاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية الصينية.
في كل تفصيل منه، تتناغم الاستراتيجية الصينية هذه مع حاجات تشكيلة كبرى من الأنظمة والقوى السياسية والجماعات والنخب الاقتصادية في منطقتنا.
هؤلاء الذين “غلبوا” في محصلة عقد من “الربيع العربي”، وصاروا يلهثون في البحث عن نموذج يُحتذى وقوة حماية سياسية دولية، ومعها عن ترسانة خطابية وإيديولوجية تسند خواء “انتصارهم”، الذي كان يستند على القوة المحضة فحسب، وذلك لخلق مزيد من التكريس والثبات لـ”انتصارها” الميداني في محصلة هذا العقد.
في سعيها لذلك، فإن هذه التشكيلة المتناغمة مع الصين، تسعى للترويج والعمل على ما تسميه بـ”الصيغة التوافقية”، بينها وبين القواعد الاجتماعية الأوسع في بُلدانها، مماثلة ومرتبطة ومستندة إلى النموذج الصيني، في أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحتى القيمية.
تقول هذه “الصيغة التوافقية”: “سنسعى لتأمين مستويات معقولة من النمو الاقتصادي، ودرجات شديدة المتانة من الاستقرار. لكن عليكم أيتها القواعد الاجتماعية أن تتخلوا عن أي دعوات أو مطالبة بالتمثيل السياسي أو الحريات العامة، أو حتى بالتنمية البشرية، المتجاوزة لصيغ النمو الاقتصادي الرقمي المحض”.
يستفيد هؤلاء من ثنائية متدفقة بقوة راهناً إلى المجال العام في هذه البلدان: الحالة النفسية للملايين من أبناء هذه القواعد الاجتماعية، التي تلقت ضغوطا هائلة على مسيرة حياتها اليومية وسياق استقرارها المستدام خلال العقد الماضي، ضمن تحولات الربيع العربي، وتالياً صاروا يركنون لنزعة سياسية ونفسية محافظة للغاية، تفضل ديمومة الاستقرار على أي قيمة سياسية وثقافية واجتماعية مُضافة، قد تنفرز عن الحرية وتنتج عن الحركات المطلبية المناهضة للقوى الغالبة.
كذلك فإن هذه التشكيلة من القوى التي تروج للنموذج الصيني، إنما ترتكن إلى اندفاعة الصين الاقتصادية والسياسية إلى خارج حدودها، والتي تُبشر منذ سنوات لأن تكون قطباً موازياً للولايات المُتحدة وحلفائها الغربيين، بالذات لقيامها الثقافية والسياسية والحقوقية، وهو بالذات ما يغري القوى المحلية الغالبة في بلداننا، لأن هذه القيم الحقوقية والسياسية هي الأشد خطورة عليها.
تبادِلهم الصين وداً ورغبة مثيلة بالتعاضد، تعدهم بثلاثية التغطية السياسية الاستراتيجية على المستوى الدولي، بالذات في مجلس الأمن، وإلى جانب ذلك رعاية اقتصادية معقولة، تسمح لهذه الأنظمة والقوى والجماعات بخلق مناخات لتشييد اقتصاديات محلية نامية، يلبي حاجات أجهزة الدولة والحُكم، ولو بحدها الأدنى.
لكن أهم ما في جعبة الصينية المفتوحة لهؤلاء الغالبين، هو الوعد بترك يد هذه الأنظمة والقوى والنُخب حرة تماماً في المجال الداخلي، دون أي مسائلة أو نقد أو حتى مُبالاة.
تُعيد هذه العلاقة مع الصين بما كان قد جُرب تماماً طوال عقود كاملة مضت، مع الاتحاد السوفييتي، ونسبياً مع روسيا، في السنوات التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي.
فمثلما كان السوفييت يؤسسون لفيض من الأيديولوجيا الخطابية، التي كانت تُغرق الحلفاء الإقليميين، فإن الصين تعد بخواء إيديولوجي تماماً.
لكن الأداتين توصلان إلى المكان ذاته، هو تجاوز قضية هذه المُجتمعات المركزية، المتعلقة بحرية الضمير وتنوع الكلام في المجال العام، حيث هيمنة الأيديولوجيا وسطوتها، أو خواؤها وخلوها، يؤديان عملياً إلى تدمير تلك الحرية وذلك الحق في الكلام المخالف.
وبالضبط كما كان النموذج الاقتصادي السوفييتي، المُرشد لحلفائه يقوم على بناء اقتصاديات مركزية حمائية، مبني على قطيعة مع العالم الخارجي، يُنتج بضائع ومواد دون أي ميزة أو تنافسية أو قيمة مُضافة، بحيث كانت في جوهرها آلة كبرى لخلق أوسع مساحة للبطالة المقنّنة، فقط لاستخدام ملايين الموظفين هؤلاء في الزخم السياسي الشعبوي فقط.
كذلك فإن النموذج الاقتصادي الصيني، إنما يعد بخلق اقتصاديات فساد عمومية. بحيث يكون الاقتصاد في المحصلة في يد نُخبة من المتحكمين، من ذوي الروابط العائلة والشخصية والزبائنية مع النُخبة السياسية الحاكمة، المتداخلين والمتحالفين فعلياً في منظومة واحدة، أساسها السيطرة والهيمنة على كافة مناح الحياة.
يجمع هؤلاء النهم المُطلق لمراكمة الثروات وتهريبها، دون أي مسؤولية أخلاقية تجاه المجتمعات أو اعتبار لأية معايير بيئية.
أخيراً، وكما كان للنموذج السوفييتي أسوأ الأدوار على في إنتاج نظراء محليين، يجمعون كُلَّ أنماط الوحشية والدناءة الإنسانية في أنظمتهم العسكرية والسياسية الحاكمة لبلداننا، فإن الصين لا تُبشر بما هو أحسن حالاً، وفي كُل حدب، من السياسة إلى الآداب والعلوم، مروراً بالبيئة وحقوق الإنسان.
لأنه ثمة شرط واحد قادر على انتشال البشر من عذابهم، هو الحُرية، حيث أن هذه الأخيرة ليست فقط مفقودة في النموذجين المذكورين، الصيني والسوفييتي، بل يظهران جلياً وكأنهما بُنيا تماماً وتفصيلاً لأن يكونا على التضاد التام والمُطلق معها.