بقلم: حسام ميرو – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – في 24 ديسمبر/كانون الأول الجاري، من المفترض أن يتوجّه الناخبون الليبيون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس لبلدهم، وهي المرة الأولى التي تجري فيها انتخابات رئاسية، بعد أكثر من 10 سنوات على نهاية حكم العقيد معمر القذافي، وانتهاء ما كان يعرف بـ«الجماهيرية العظمى»، التي امتدت إلى حوالي أربعة عقود. ومع هذه الانتخابات، فإن ليبيا، نظرياً، ستكون مع موعد تاريخي للانتقال من الجماهيرية إلى الجمهورية؛ حيث منصب الرئاسة هو منصب قابل للتداول عبر الانتخابات، وليس تفويضاً بالحكم إلى أمد غير معلوم، لكن ما هو مأمول نظرياً من العملية الانتخابية، لن يكون بالضرورة هو الواقع الفعلي، فقد عودتنا مسيرة التاريخ في الشرق الأوسط على أن ما هو صحيح نظرياً قد لا يكون هو الحاصل في الواقع، وهو أمر لا يمكن استثناء ليبيا منه، قياساً إلى جملة من الوقائع والتحديات التي تواجه مصير التحولات الوطنية والسياسية في بلد أصبح مسرحاً لحروب داخلية عديدة، وتدخلات خارجية إقليمية ودولية.
مؤخراً، استقال يان كوبيش، المبعوث الأممي إلى ليبيا من مهمته، وهو أمر لا يحمل أي مفاجأة استثنائية، فقد استقال قبله غسان سلامة الذي قام بالمهمة ذاتها بين عامي 2017 و2020، فالأوضاع التي نشأت بعد سقوط نظام القذافي تحمل في عناوينها الرئيسية وفي تفاصيلها تعقيدات كبيرة، ولا يمتلك مبعوثو الأمم المتحدة تأثيراً كبيراً على أطراف الصراع، خصوصاً أن أطرافاً دولية أساسية منخرطة فيه، وبعضها موجود كعضو دائم في مجلس الأمن، من مثل فرنسا وروسيا، ما يجعل من مهمة المبعوث الأممي إلى حد كبير مهمة شكلية، تفتقد إلى الإجماع في مؤسسات الأمم المتحدة، كما أن أطراف الصراع المحليين لهم تحالفات إقليمية ودولية، ما يعرقل فعلياً توصلهم إلى تسويات قائمة على أجندة وطنية صرفة.
تأسست الجماهيرية الليبية في ديسمبر/كانون الأول عام 1969، وقد حرّم الدستور الليبي العمل في الشأن السياسي العام، خصوصاً العمل الحزبي، كما أنه لم يتضمن أي إشارة إلى العلاقة بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، وهو في مجمله دستور أيديولوجي، لا مكان فيه للقضايا المؤسساتية الرئيسية، كما أن المواد المتعلقة بالحقوق المدنية تبدو مواداً ملتبسة من حيث مرجعية الحقوق، أو من حيث أشكال ممارستها، وقد جعل الدستور من الرئيس الليبي، بوصفه «المفكر الثائر المعلم العقيد» (كما جاء في مقدمة الدستور) مرجعية كل السلطات، من دون أي ذكر لشكل العلاقة القانونية بين الرئيس والسلطات، والمقصود بها «السلطات الشعبية»، المنبثقة عن المؤتمر الشعبي العام، وهذا الشكل من النظام السياسي لم يحدث أي تعديلات جوهرية طوال أربعة عقود، على الرغم من كل التغيّرات التي حدثت في العالم، بما فيها التغيّرات الاقتصادية العولمية؛ إذ بقي النظام الاقتصادي مغلقاً، من دون أي استثمار حقيقي للريع النفطي الكبير في عمليات التنمية المحلية، أو في تطوير منظومات الإنتاج.
الإرث الذي تركه نظام الجماهيرية كان ثقيلاً بكل المقاييس، فحرمان المجتمع الليبي من تطوّر الحياة السياسية، أو تنظيم المجتمع المدني، إضافة إلى عدم وجود نظام اقتصادي طبيعي، كل هذا منع حدوث تحوّلات مجتمعية ضرورية، وهو ما برز جلياً في عودة العصبيات القبيلية والجهوية إلى واجهة المشهد السياسي؛ حيث تنقسم ليبيا اليوم إلى شرق وغرب، وتوزّع القبائل في ولائاتها بين الطرفين، ما يجعل من المؤسسات الناشئة خلال السنوات الماضية ذات طابع حداثوي شكلي، على الرغم من نشوء عدد كبير من الأحزاب السياسية، لكن غير المؤثرة من الناحية الفعلية في الاتجاهات والعناوين الكبرى للصراع بين الأطراف المحلية التي تحتكم إلى السلاح، إضافة إلى هيمنتها على الثروات النفطية.
بعض الشخصيات التي شاركت في حكومة الوحدة الوطنية، كانت قد تعهدت بعدم الترشح لمنصب الرئاسة، لكنها انقلبت على تعهداتها، وقدمت أوراق ترشحها، ما يعكس حدة الخلافات بين الشخصيات الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي، ويفتح الباب أمام تحقق سيناريو رفض بعض المرشحين لنتائج الانتخابات، وبالتالي حدوث انتكاسة كبيرة للعملية السياسية برمتها، تعيد خلط الأوراق من جديد، وتعمّق حالة الانقسام، وتجعله الحقيقة الأكثر رسوخاً في المشهد الليبي.
الطريق نحو الجمهورية في ليبيا طريق طويل، ولن تكون محطة الانتخابات المقبلة سوى اختبار جديد للتخلص من إرث الجماهيرية، وبناء عقد اجتماعي جديد، يؤسس لعلاقات قائمة على المواطنة، وليس للانتماءات ما قبل الوطنية، ويجعل من ليبيا دولة مزدهرة اقتصادياً بما تمتلكه من ثروات، ينبغي الكف عن إهدارها في الحروب والسلاح والفساد، لمصلحة بناء دولة حديثة، يستحقها الليبيون.