بقلم: طوني فرنسيس – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- لا تقوم دولة من دون جيش. في عصرنا، لا تزال الجيوش حاجة، فالنزاعات الداخلية والخارجية تجتاح عدداً من بقاع الأرض، وتهديدات الإرهاب قائمة مثلما أن الاعتداء على الآخرين وهضم حقوقهم لا يزالان سياسة سائدة.
بين نحو 200 دولة في عالمنا، يُحكى عن 31 دولة ليست لديها جيوش نظامية، لكنها تمتلك أجهزة أمن وشرطة وترتبط بمعاهدات حماية مع جيران أقوياء. من تلك الدول أندورا وغرينادا وليشتنشتاين وساموا وأشهرها على الإطلاق دولة الڤاتيكان !
الدولة التي تبحث عن جيش اليوم هي أفغانستان، هذا البلد الذي يعيش منذ نصف قرن تقريباً في الفوضى والحروب لأسباب عدة، ربما يكون جذرها في انقلاب الجيش على الملكية ثم اندثاره نتيجة تناحر المنقلبين. كانت أفغانستان حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي دولة في طور النمو، توافرت لها بقيادة ملكها محمد ظاهر شاه ظروف من الاستقرار والعلاقات الطبيعية مع الجيران أتاحت تنمية ونمواً وعمراناً، فكانت المدارس والجامعات رافعة لجيل أفغاني جديد ومطار كابول منفذاً دولياً للبلاد الجبلية نحو العالم.
إلا أن كل شيء انتهى بانقلاب محمد داوود عام 1973 على الملك الذي سيبقى “أب الأمة” حتى وفاته ودفنه في عاصمة بلاده في تسعينيات القرن الماضي. كان داوود مقرباً من الملك الذي يزور إيطاليا، فانقلب عليه قبل أن يطيحه انقلاب آخر في 1978، نفّذه ضباط “شيوعيون” أفغان تذابحوا بعد أقل من عام.
يمكن تأريخ بداية انهيار الجيش الأفغاني بدءًا من اندلاع موسم الانقلابات على النظام الملكي. كان بابراك كارمال شخصية سياسية ونائباً منتخباً عندما اندفع في المؤامرات الانقلابية وإلى جانبه نور طرقي وحفيظ الله أمين شريكه في قيادة الحزب الديمقراطي الشعبي، لكن أمين قضى على طرقي وفرّ كارمال إلى براغ قبل أن يعود برعاية الجيش السوفياتي على جثة أمين وصحبه!
منذ تلك الفترة، تحلّل الجيش الأفغاني. الانقلابيون حوّلوه إلى أجهزة شخصية متناقضة و”المجاهدون” وشذّاذ الآفاق في الجبال الأفغانية قضوا على بقاياه وتقاسموه. ولم يكُن ما حصل في يوم الانسحاب الأميركي من غياب للمقاومة في وجه حركة “طالبان” مفاجأة، فالسوفيات لمسوا باكراً بأنفسهم أن لا جيش أفغاني يُركَن إليه .
فعندما قرروا تنفيذ خطتهم للسيطرة على أفغانستان في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1979، لم يلحظوا دوراً للجيش الأفغاني.
تولّت الاستخبارات السوفياتية KGB وفرقة الإنزال الجوي السيطرة على المنشآت الرئيسة، وقامت الوحدات السوفياتية الأخرى بمهمات حفظ النظام العام. يروي هذه الوقائع بالتفصيل مدير الاستخبارات في كابول اللواء ليونيد بوغدانوف، والد نائب وزير الخارجية الروسي حالياً ميخائيل بوغدانوف، وهو يخلص في ختام عمله في العاصمة الأفغانية بعد نحو عام من التاريخ المذكور إلى أن لا جيش في أفغانستان !
كان المارشال سيرغي سوكولوف قائداً للقوات عندما صارحه بوغدانوف، قائلاً “أتعرف ماذا أخشى؟ أسوأ شيء يمكن أن يحدث هو أن ينحلّ عقد الجيش الأفغاني، ويقوم كله بالفرار، لنبقى نحن بمفردنا في مواجهة الجموع الغفيرة للمتمردين في كل انحاء البلاد!”.
حصل ذلك بالفعل وتورّط السوفيات في حرب ستدوم إلى نهاية الثمانينيات قبل أن يقتنعوا بمغادرة البلد الذي فكر ديمتري أوستينوف، وزير الدفاع السوفياتي يومها أن الطبقة العاملة (غير الموجودة) فيه ستدافع عن الثورة وتبني الاشتراكية!
لم يقرأ الأميركيون ربما تقييمات أسلافهم الروس لكنهم كرروا الأوهام ذاتها. بنوا جيشاً وأجهزة أمنية من نحو 300 ألف عنصر، لكنهما تبخّرا في فسحة عشرة أيام كانت كافية لتسيطر حركة “طالبان” على كابول ومعظم البلاد.
أنفقت الولايات المتحدة 83 مليار دولار منذ 2001 على بناء وتسليح القوات الأفغانية، وجهّزتها بالطائرات والحوامات والدبابات والمدرعات والآليات التي سقطت بيد “طالبان” من دون قتال، لأن الحركة كما اتضح كانت تمسك بالأرض ترهيباً وترغيباً ولأن مناخات التسوية الحقيقية في أفغانستان لم يتم إنضاجها بجدية على مدى عقدين من التدخلات والوجود العسكري المباشر .
الآن انتزعت “طالبان” السلطة. إنها تسيطر عملياً على الجزء الأكبر من البلاد، لكنها في النهاية مجموعات من المسلحين تجمعهم فكرة “الإمارة الإسلامية” أكثر مما يجمعهم ولاء وطني.
إنهم لا يرفعون العلم الوطني ويواصلون تعميم رايات حركتهم على المعابر الحدودية ومراكز السلطة. لكن الحركة الأفغانية بدأت تستشعر ضرورة قيام جيش نظامي ضمن استشعارها موجبات قيام دولة ذات استمرارية بقيادتها. فمن سيتولّى مساعدتها في تنظيم هذا الجيش؟
تبدو باكستان الدولة الأقرب، فهي أساساً متهمة برعاية “طالبان” بل بتأسيسها. واحتمال أن تتولّى المهمة قائم إلا أن موانع يمكن أن تحول دون ذلك، فالأفغان يعانون من الهيمنة الباكستانية و”تشغيلهم” لديها، والباكستانيون يحسبون بدقة قدراتهم وعلاقاتهم وجدوى انخراطهم في رعاية جيش “طالباني” على حدودهم .
الصينيون سيهتمون بالأمر أيضاً. هم أقاموا علاقات ودّية مع الحركة الأفغانية، يحاولون عبرها توفير منافذ لمشروعهم الكبير حول طريق الحرير، وضمان تحييد مسألة الإيغور وعدم تعاطف “طالبان” معهم .
الإيرانيون سيهتمون، لكن الخلافات المذهبية والإقليمية تقف عائقاً. وكانت الاشتباكات الحدودية الأخيرة إشارة إلى مدى الكراهية بين الجانبين: الطرفان كانا يطلقان هتافات دينية فيما يتبادلان الرصاص .
والأرجح لن يكون الأميركيون ودول حلف الأطلسي في عداد الأطراف المرشحة للانخراط في مهمة من هذا النوع، أقله في المدى المنظور. من سيبني جيشاً لأفغانستان إذاً؟
روسيا، بلد الاحتلال السابق، تتابع الأمر عن كثب. هي تدرك أن “طالبان” تطمح إلى إنشاء جيش قوامه 150 ألف جندي وأرسلت إلى هناك باحثاً لا يحمل صفة سياسية في مهمة تشبه مهمات بريماكوف كمدير لمعهد دراسات وهو في الواقع كان أفضل من يمثل الدولة السوفياتية في حينه. وخرج الباحث الجديد مكسيم شوغالي بانطباع بسيط “قد تلجأ طالبان إلى روسيا للحصول على المساعدة عند إنشاء جيش لأنها تعاني نقصاً حاداً في المتخصصين ذوي الصلة”.
ربما تحظى روسيا مرة جديدة بفرصة في بلاد الأفغان وتكون بذلك منقذةً لحركة حاربتها طويلاً وأسهمت في جعلها الآن، بعدما دار التاريخ دورته، بانية لجيش وسلطة مستقرة بعد نصف قرن من الخراب وضياع الوطن الأفغاني .
هل يحصل مثل هذا الأمر؟ الجواب سيحمله المستقبل ولا شيء مستحيلاً، كما يبدو، في عالمنا.