بقلم: رشيد الخيّون – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – إنَّ الخمسينَ عاماً في عمر الدُّول لا تُشكل دهراً، كالذي نقرأه عن آلاف السِّنين مِن تاريخ الإمبراطوريات، وكم حاكم جاء إلى السُّلطة بانقلاب وقضى الأربعين أو الخمسين عاماً بالهدم والدَّم، وبتصدير الضَّخامة، بعد أنَّ ضاقت عليه بلاده، والشَّاهد قول الحيص بيص(ت 574هـ): «ما أنصفت بغداد نائبَها الّذي/ كَبُرت نيابتُه على بغداد»(ابن تغرى بردى، النُّجوم الزَّاهرة)! انطلق أبو الفوارس سعيد بن محمد في مدحه مِن واقع حال، فنظر إلى ممدوحه أنّه أكبر مِن البلاد.
يخص القول المتضخمين عقائدياً في عصرنا الحديث، فالعقيدة عندهم تعبر الوطن، ويصبح الوهم بإمبراطورية، وإن كان خارج الزَّمن، هدفاً. إنَّ عبور الأوطان بنشر العقيدة أو التَّنظيم المسلح يقلق الوطن وجيرانه، فيصبح منطق «الذوبان» بالخارج صفقةً مشبوهةً، وما زال عراقنا يئنُ مِن وطأة شعار «ذوبوا…».
دخلتُ جناح «الرؤية» في إكسبو 2020، حيث 192 دولةً حضر ملوكها ورؤساؤها ليحتفلوا بأعيادهم الوطنية، بمكان أسطوري العُمران، كان رمالاً تعمي عيون عابريه، تُلاحظ في المدخل عبارة «خمسون عاماً ومازالت القِصّة في بدايتها». خمسون عاماً هو عمر دولة، كان هَمُّ إنسانِها البحث عن بئر يستقر حولها، فكم يكون مبدعاً مَن يؤسس دولةً على أرض جرداء قفراء، حتى كانت الأمنية ببناء مدرسة أو حوض ماءٍ خيالاً، ناهيك عن اعتلاء مراكز متقدمة بين دول العالم، يُحسب حسابها في الاقتصاد والسّياسة، مطاراتها لا تهجع ليلاً ونهاراً.
كنتُ بصحبة الباحث العراقي القدير فالح حنظل، بين غابات العمائر بأبوظبي، حيث استقر منذ (1969) سألته: كيف كان هذا المكان؟! قال: بحر، وما هذا العُمران إلاَ دفائنَ، كان البحر يصل إلى «قصر الحصن» المتواضع، وهو البناء الوحيد، وأشار بيده بعيداً.
أما الضَّابط العراقي أبو عليّ فوصل دبي(1959)، ودخل سلك الشّرطة، النَّاشئة آنذاك، فقال: كانت دبيّ قرية، الصحراء والبَحر يحاصرانها! فقلتُ: إذن الشَّاعر عبود الكرخي(ت: 1946) كان محقَّاً، في محالاته(1933): «ايصير كوسج بحر(قرش) ما عنده ضروس/ ويصير بدبي مدرسة حربيَّة»(الدِّيوان)! أما الآن فأصبحت معارض الطَّيران والأسلحة العالميَّة بدبي الأشهر. دولة، المعارض فيها لا تتوقف، على مدار السنة، في شتى المجالات، ومعارض الكُتب أولاً، فمعرض الشَّارقة بلغ(42) عاماً.
أصدرت قوانين ضد العنصرية كي تعيش مئتا جنسية بسّلام. استغنت عن إرسال البعثات التَّعليمية، لمختلف التَّخصصات، بما لديها مِن جامعات راقيَّة، أما الطّب فاستقدمت أشهر المستشفيات إليها. لكن النّعمة التي يُقدرها الوافد مِن بلدان القلق والتَّرقب، نعمة الأمن، الذي يكاد يكون مطلقاً.
حصل هذا، وقِصة الدولة في بدايتها، نشأت على تصالح العقل والثروة، لم تكن غنية بمواردها، قياساً بالبلدان التي هدتها الانقلابات والولاءات الخارجية. كانت غنيَّة باستقدام العالم إليها بعلومه وموارده، لأنها حصرت عقيدتها بالبناء، تراها كلَّ يوم في شأنٍ جديد. فإذا كان كلُّ ما حصل، مِن عمران وتقدم خلال الخمسين عاماً، وقِصَّتها «مازالت في البداية»! فاعلم أنها ستبقى شابةً، لا تنطبق عليها نظريّة «إخوان الصَّفا»(ق 4 الهجري)، وتبعهم ابن خلدون(ت: 808هجريَّة): «اعلم بأنَّ كلَّ دولة لها وقت منه تبتدئ… فإذا بلغت أقصى غاياتها ومدى نهاياتها، تسارع إلى الانحطاط والنّقصان»(4 القسم الرّياضي). أقول: ما أشار إليه الإخوان خص الإمبراطوريات العابرة للجغرافيا، لم يعيشوا عصر الدَّولة الوطنيَّة، التي يعصم إنجازاتها شعبها، كلما ظل بعيداً عن عقائد غير عقيدة الوطن.