بقلم: حسن إسميك – إيلاف
“لا تقتل” (التثنية 5: 17)؛ “صَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ” (متى 5: 44)؛ {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 28).
ثلاث آيات، من الكتب المقدسة للأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، تظهر بما لا يدع للشك مجالاً، بأن الدين لم يَدفع يوماً إلى العنف، ولم يعتمده أداة في الدعوة ولا الانتشار، بل على العكس من ذلك فقد جعل الدين من “اللاعنف”، وقبل أن يولد المصطلح بقرون كثيرة، “فريضة” واجبة على المؤمنين، وأسلوب حياة يضمن لهم الفوز برضا الله على الأرض، وبملكوته في السماء.
نجد أنفسنا اليوم، للأسف، بحاجة إلى التذكير بهذه “المسلمة” والحديث عنها، والاستفاضة في شرحها وتقديم الأمثلة حولها، وذلك يرجع إلى انتشار فرضية تربط العنف بالدين، وتجعل الثاني أصلاً للأول. يرى أصحاب هذه الفرضية أن الدين والعنف متلازمان، وأنه إذا لم يكن الدين سبباً للعنف، فهو عامل مساهم وأساسي في تأجيج الصراعات الإنسانية، ويدعمون هذا الربط بأدلة وأسباب ومسوغات مضللة، فيندفع كثيرون للتسليم بها دون بحث وتفكير، ودون الأخذ بمجمل الظروف التاريخية والسياسية طوال قرون، والتي تضمنت حركات خبيثة ودؤوبة، عملت على تحريف المبادئ الدينية أو نزعها من سياقاتها الصحيحة، بهدف إضفاء الشرعية على العنف، وإيجاد حالة ما بات يعرف اليوم بـ “العنف المقدس”.
يشخص أستاذ الدراسات الكاثوليكية في جامعة دي بول الأمريكية وليام ت.كافانو هذه الحالة في كتابه “أسطورة العنف الديني: الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث”، ويقول بأن أسطورة العنف الديني استُخدمت لقولبة الأنظمة الاجتماعية غير العلمانية، بالأخصّ المجتمعات المسلمة، في قالب “الشرير”، كما تم استخدامها لنزع الشرعية عن أنماط معينة من العنف في مقابل شرعنة أنماط أخرى.
ورغم أن اللاعنف كمصطلح قد ظهر حديثاً في الأدبيات السياسية والاجتماعية، منذ أن تبلور في الهند على يد المهاتما غاندي مطلع القرن العشرين، لكن جذور هذا المبدأ تعود إلى ممارسات دعت إليها الأديان قبل ذلك بقرون، وتجلّت تلك الممارسات في تعاليم هذه الأديان وفي سلوك رُسلها، فرسمت أولى معالم المنهج اللاعنفي، الذي يتوافق بشكل كامل مع غاية الدين المتمثلة في بث الطمأنينة في النفوس، وحماية الأرواح ودعم الحياة الإنسانية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، تنص الوصية السادسة، من الوصايا العشر التي انزلها الله سبحانه على نبيه موسى، وضوحاً على تحريم القتل. ونجد بالمثل أن موسى عليه السلام لم يلجأ إلى العنف للدفاع عن شعبه، لكنه استطاع تخليصه بالوقوف أمام فرعون وبالحوار معه، تضع هذه الوصايا -بالإضافة إلى سلوك النبي موسى- كل التعاليم التي تحضّ على العنف والعنصرية الموجودة في التلمود موضع شك، وتظهر التضليل الذي يتعرّض له أبناء الديانة اليهودية على يدّ المتطرفين منهم، والذين تدفعهم غايات سياسية في معظم الأحيان.
أما المسيحية، فقد مثَّلت منذ بداية رسالتها دعوة عالمية إلى السلام، فقد دعا الإنجيل بصراحة إلى اللاعنف في مواقع كثيرة، جاءت مرة على لسان السيد المسيح، حيث قال مثلاً: «أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم»، وقال: «طوبى لفاعلي السلام فإنهم أبناء لله يُدعون». ومرة أخرى في أعمال رسل المسيح وتعاليمهم، حين كتب الرسول بولس: “لا تكافئوا أحداً على شر بشر”، وقال: “سالموا جميع الناس إن أمكن أو ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً”، وقال أيضاً: “أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والأمانة والوداعة”. لقد تعرّض المسيح عليه السلام إلى الأذى الجسدي والنفسي، لكنه تمسك بموقفه اللاعنفي وتوجه إلى الله وقال طالباً المغفرة لمضطهديه، وما زال المسيحيون يرددون من بعده العبارة الشهيرة «سامحهم.. فإنهم لا يعرفون ماذا يفعلون».
وبالمثل، يحفل التاريخ الإسلامي بقصص عن محاولات إيذاء الرسول الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام، من قبل مشركي قريش منذ بداية الدعوة الإسلامية، وقد وصل ذلك حدّ الأذى الجسدي، ومن إحدى تلك القصص ما نقله الطبري وابن إسحاق عن تعمد بعض هؤلاء المشككين، نثرَ التراب على رأس النبي وهو يسير في مكة، وإعراضه عن الرد بالمثل عملاً بقوله تعالى ﴿واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً﴾.
ليست تلك الآية هي الوحيدة التي تدعو بشكل صريح إلى اعتماد اللاعنف وسيلة للدعوة والهداية، ففي الآية 94 من سورة الحجر يقول تعالى مخاطباً نبيه ﴿فَاصدَع بِما تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكينَ﴾، وفي آية أخرى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ و ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. وغير تلك الآيات الكثير.
لكن، ورغم التحريم الواضح للعنف في النصوص الرئيسة للأديان الثلاثة، لم تنجُ أيَ من هذه الرسائل السماوية من محاولات استغلال تعاليمها لشن الحروب وشرعنتها، وقد وصل الحدّ ببعض أولئك المستغلين إلى تحريف نصوص دينية وتجييرها ولي عنق الآيات لخدمة مصالحهم، أو استخدام مفاهيم دينية في غير هدفها الذي وضعت لأجله، فـ “الجهاد الأكبر” في الإسلام –كما هو معروف– إنما هو جهاد النفس، وهو العمل من أجل الله وكلمته، لكن الكثير من التنظيمات المسلحة باتت تستخدمه اليوم لتبرير ما تقوم به من إرهاب وقتل وتدمير باسم الدين، مستغلة مشاعر المؤمنين ومكانة الدين الإسلامي لديهم، وهي المسؤولة عن وسم الإسلام بالإرهاب، والإساءة إلى صورة المسلمين في العالم، وإدخالهم في حرب نفسية دائمة لإثبات سلمية دينهم ودعوته الإنسانية.
كذلك فقد انتشر استخدام مصطلحات مثل “الحرب المقدسة”، لتبرير استخدام العنف لحماية الدين أو العقيدة، ولم تكن تلك الحروب يوماً سوى غطاءً لمصالح اقتصادية وسياسية لجهات أخرى، تبقي نفسها بعيدة عن الصراع المباشر عادة. ولم يكن استخدام هذا المصطلح حكراً على دين دون الآخر، فإطلاق جورج بوش الابن اسم “الحرب المقدّسة”، على حربه في العراق وأفغانستان مطلع القرن الواحد والعشرين، لم يكن إلا محاولة للعب على وتر الدين كمبرر لها، ولا تتوقف جهات متطرفة في إسرائيل عن استخدام الدين اليهودي، في جزئه المستند إلى التلمود تحديداً، ذريعةً لما تقوم به ضد الفلسطينيين.
لقد صار الدين والعنف من عناصر التحليل في العديد من الأبحاث والدراسات المنضوية ضمن إطار علم الاجتماع السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي، وكان المردّ الرئيس لهذا التوجه هو استخدام بعض الجماعات السياسية للأديان من أجل التحشيد، وتوظيف الانتماءات الدينية في الانتفاضات والحركات المسلحة في أماكن عدة، واذكر كمثال ما قامت به الثورة الإيرانية عام 1979 من الاستناد على الدين والانتماء الطائفي لتحقق النجاح، أو ما قامت به حركة “لاهوت التحرير” في أمريكا اللاتينية، والتي قوبلت برفض كامل من حاضرة الفاتيكان. وقد أثبتت تلك الدراسات التي حللت البنى العقدية التي تقوم عليها الأديان، أن فكرة الأديان قد تم الزج بها في العنف، من خلال اصطناع تأويلات تضفي شرعية عليه.
يناقش فيلسوف اللاعنف جان ماري مولر، في كتابه “نزع سلاح الآلهة”، تعاليم المسيحية ودعوتها لعدم مقاومة الشرَ بالشر، ويرى بأن من سماهم “آلهة الأرض” هم من يقف وراء العنف المستشري بها، وهم من صنع البشر، لكن الله الواحد هو المحبة والحق. وفي الجزء الثاني من الكتاب، يشجب مولر تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا، ويطالب المؤمنين بكشف النور عن جوهر الإسلام المتسامح واللاعنفي، وهي دعوة مهمة في هذا الوقت كما أعتقد، فديننا يتعرّض للتشويه بشكل ممنهج من قبل من يدّعون تمثيله، وهم لا يستخدمون سوى العنف وسيلة، منطلقين من جهل مدقع أو تغافل متعمد لحقيقة رسالة الإسلام السمحاء.
لقد أوصلنا المتطرفون إلى مكان نحتاج فيه جهوداً جبارة لإزالة الوسم ومحو الصورة التي باتت تتنمط بها الأديان جميعها، وإعادة تظهير الوجه والتوّجه الحقيقي لها، الهادفين إلى تحقيق غايات الإنسانية بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالتآخي والتعاون والمحبة، وأجدني هنا أعود من جديد للتذكير بما جسده نداء «وثيقة الأخوّة الإنسانية» في أبو ظبي (2019)، والذي أطلقه رأسا القيادة الروحية في العالمين الإسلامي والمسيحي إمام الأزهر وبابا الفاتيكان، وهو دعوة صريحة للعودة إلى الجوهر السلمي للأديان، بعيداً عن العنف والإقصاء والحرب.
يبقى اللاعنف هو خيار الأقوياء، ولطالما كان الدين قوة سلام، فقد جاءت الرسالات السماوية جميعها لتهذيب النفس الإنسانية وإرشادها، ولتنهي السلوك العنيف الذي كان سائداً على الأرض، ومثلما احتلت الأديان في الماضي مكانة عليا لدى البشر، لأنهم وجدوا فيها خلاصهم وقيمة حياتهم ووجودهم، علينا اليوم، كمؤمنين في كل أنحاء العالم، أن نعمل ليستعيد الدين دوره الذي لا يقدر عليه أحد غيره، فيمنح البشرية سلامها من خلال تعاليمه الإنسانية ودعوته إلى الرفق والرحمة، وتأصيل مبدأ اللاعنف طريقاً نحو البقاء.