بقلم: عبد الإله بلقزيز – سكاي نيوز
الشرق اليوم- ليست صناديق الاقتراع هي ما يصنع الدّيمقراطيّة، على رأيٍ دارجٍ وشائع؛ الدّيمقراطيّة هي التي تصنع صناديق الاقتراع وتنظِّفها من التّزييف والتّزوير، فتهيِّئُها لتكون مستودعاً مناسباً للإرادة الحرّة للمواطنين.
صناديق الاقتراع من غير خلفيّةٍ وأساسٍ ديمقراطيّين لا تضْمن شيئاً، ولا يُضْمَن أن تكون رَحِماً لمفاجآت قد يَقْلب بعضُها نظامَ الدّيمقراطيّة نفسَه. وعلينا أن لا نستصغر شأن هذه المسألة. نعم قد تقود صناديقُ الاقتراع الدّيمقراطيّة إلى حتفها إن لم تكن (صناديق الاقتراع) معمَّدة بالقواعد الدّيمقراطية تعميداً يقيها من انقلاب نقائضها عليها. الوسائل في حدّ ذاتها غيرُ حاملةٍ مضموناً بعينه. إنّها وعاءٌ فارغ يُمْلَأ بهذا المضمون أو ذاك، وأسوأ شيءٍ أن يُختَزَل مبداٌ مّا أو قيمةٌ مّا أو مشروعٌ في وسائله التي يتوسّلها.
السّلاح مثلاً – وهو من وسائل كلِّ سلطةٍ لحِفظ بقائها والدّفاع عن نفسها في وجه الأخطار التي تتهدَّدُها – يمكن أن يكون، في الوقت عينه، من وسائل بعض معارضاتها للانقضاض عليها والاستيلاء. كذلك شأنُ صناديق الاقتراع التي يُراد لها أن تكون عنواناً رسميّاً للدّيمقراطيّة، والفيْصلَ بين وجودها وغيابها. والأسوأُ من اختزال الدّيمقراطيّة في وسائلها، تقديسُ تلك الوسائل (= تقديس صناديق الاقتراع) والقطع بأنّ ما يتولّد من نتائجها هو ما يصنع للسّلطة مشروعيَّتها، من غير الانتباه إلى أنّ مَن يملك أن يَرْكَبَ صَهْوة السّلاح وتَوسيلَ قوّته للوصول إلى السّلطة، يمكنه – بل هيّنٌ عليه كثيراً- أن يَرْكب سبيل صناديق الاقتراع لبلوغ الهدف عينِه: وبأقلّ كلفة ممّا يفرضُها عليه السّيرُ في الخيار الأوّل.
وما أغنانا عن القول إنّ هذا التّصوّر الوسائليّ للدّيمقراطيّة يُضْمِر أخطاراً عليها لا حصر لها، ناهيك بتجاهُله أساسات النّظام الدّيمقراطيّ: الحريّة، التّوافق على مشروع مجتمعيّ، الفصل بين المجالين الزّمنيّ والدّينيّ، البناء على المشتَركات وحِفظِها…إلخ. ولم تكن المجتمعات الحديثة العهد بالحياة الدّيمقراطيّة – وفي جملتها تلك التي تشهد على طور الانتقال إلى الدّيمقراطيّة – وحدها التي سقطت في شِراك هذه “الدّيمقراطيّة الوسائليّة”، بل انساقت إليها -أيضاً- مجتمعاتٌ غربيّةٌ عريقة في ممارسة الحياة الدّيمقراطيّة، وما بَرِح قسمٌ منها ينساق إلى ذلك، اليوم، على الرّغم من خبرة التّاريخ المعاصر ودروسه! لا لسببٍ إلاّ لأنّها أحاطت هذا النّظام التّمثيليّ بالحُرْم، ولم تَضَعْهُ موضعَ فحصٍ ومراجعة على الرّغم ممّا شَهِد عليه – في حقبته المعاصرة – من أزْمات انفجاريّةٍ حادّة!
ماذا تكون النّازيّةُ، في الغرب المعاصر، غيرَ تلك الثّمرة المُرّة لصناديق الاقتراع؟ لم يَصِل «الحزب النّازيّ» إلى السّلطة في ألمانيا بانقلابٍ عسكريّ انْقضّ على القواعد والأعراف والآليات الدّيمقراطيّة، بل من طريق الآليات الدّيمقراطيّة عينِها وصل؛ بأصوات غالبيّة النّاخبين الذين حملوهُ إلى السّلطة. وهو لم يكن حزباً دينيّاً متطرِّفاً معادياً لـِ”مدنيّة الدّولة”، بل مدنيّاً كان، وحزباً وطنيّاً ابتغى الانتقام لألمانيا ممّا لحقها من حيْف في “مؤتمر باريس” بعد الحرب العالميّة الأولى. ولكنّ وطنيّته كانت مغلقة، شوفينيّة و، بالتّالي، أتت محمولةً على مشاعر الثّأر من أوروبا ومن قسم من رعايا ألمانيا نَمَتْ مشاعرُ العنصريّة الجماعيّة ضدّها، واتُّهمت في صِدق ولائها للدّولة.
فضحتِ النّازيّةُ النّظامَ الدّيمقراطيّ في ألمانيا، وبلدان الغرب رُمّةً، وكشفت عن أعطابه وهشاشة تكوينه، وما في جوفه من آليات قابلة للاشتغال ضدّه والانقضاض عليه. ولقد تبيّنت مَخَاطر ذلك أكثر من معاينة كيف كان للنّازية وقائدها أتباعٌ ومعجَبون كُثر في أوروبا كلِّها، وكيف كان في جملتهم مفكّرون وأدباء وفنّانون وسياسيّون من عِلْيةِ النّخب! لذلك ما كان مستغرباً أن تَصْدم حادثةُ النّازيّة الوعي الأوروبيّ فتسْتجِرّ نقداً حادّاً: لا للنّازيّة فحسب، ولا للدّيمقراطيّة فحسب، بل لنموذج الدّولة الوطنيّة ذاتِه الذي أنجب هذا النّظام الدّيمقراطيّ وتنزّل من هندسته السّياسيّة منزلةَ الأُسّ الأساس.
بقلم: عبد الإله بلقزيز – سكاي نيوز
الشرق اليوم- ليست صناديق الاقتراع هي ما يصنع الدّيمقراطيّة، على رأيٍ دارجٍ وشائع؛ الدّيمقراطيّة هي التي تصنع صناديق الاقتراع وتنظِّفها من التّزييف والتّزوير، فتهيِّئُها لتكون مستودعاً مناسباً للإرادة الحرّة للمواطنين.
صناديق الاقتراع من غير خلفيّةٍ وأساسٍ ديمقراطيّين لا تضْمن شيئاً، ولا يُضْمَن أن تكون رَحِماً لمفاجآت قد يَقْلب بعضُها نظامَ الدّيمقراطيّة نفسَه. وعلينا أن لا نستصغر شأن هذه المسألة. نعم قد تقود صناديقُ الاقتراع الدّيمقراطيّة إلى حتفها إن لم تكن (صناديق الاقتراع) معمَّدة بالقواعد الدّيمقراطية تعميداً يقيها من انقلاب نقائضها عليها. الوسائل في حدّ ذاتها غيرُ حاملةٍ مضموناً بعينه. إنّها وعاءٌ فارغ يُمْلَأ بهذا المضمون أو ذاك، وأسوأ شيءٍ أن يُختَزَل مبداٌ مّا أو قيمةٌ مّا أو مشروعٌ في وسائله التي يتوسّلها.
السّلاح مثلاً – وهو من وسائل كلِّ سلطةٍ لحِفظ بقائها والدّفاع عن نفسها في وجه الأخطار التي تتهدَّدُها – يمكن أن يكون، في الوقت عينه، من وسائل بعض معارضاتها للانقضاض عليها والاستيلاء. كذلك شأنُ صناديق الاقتراع التي يُراد لها أن تكون عنواناً رسميّاً للدّيمقراطيّة، والفيْصلَ بين وجودها وغيابها. والأسوأُ من اختزال الدّيمقراطيّة في وسائلها، تقديسُ تلك الوسائل (= تقديس صناديق الاقتراع) والقطع بأنّ ما يتولّد من نتائجها هو ما يصنع للسّلطة مشروعيَّتها، من غير الانتباه إلى أنّ مَن يملك أن يَرْكَبَ صَهْوة السّلاح وتَوسيلَ قوّته للوصول إلى السّلطة، يمكنه – بل هيّنٌ عليه كثيراً- أن يَرْكب سبيل صناديق الاقتراع لبلوغ الهدف عينِه: وبأقلّ كلفة ممّا يفرضُها عليه السّيرُ في الخيار الأوّل.
وما أغنانا عن القول إنّ هذا التّصوّر الوسائليّ للدّيمقراطيّة يُضْمِر أخطاراً عليها لا حصر لها، ناهيك بتجاهُله أساسات النّظام الدّيمقراطيّ: الحريّة، التّوافق على مشروع مجتمعيّ، الفصل بين المجالين الزّمنيّ والدّينيّ، البناء على المشتَركات وحِفظِها…إلخ. ولم تكن المجتمعات الحديثة العهد بالحياة الدّيمقراطيّة – وفي جملتها تلك التي تشهد على طور الانتقال إلى الدّيمقراطيّة – وحدها التي سقطت في شِراك هذه “الدّيمقراطيّة الوسائليّة”، بل انساقت إليها -أيضاً- مجتمعاتٌ غربيّةٌ عريقة في ممارسة الحياة الدّيمقراطيّة، وما بَرِح قسمٌ منها ينساق إلى ذلك، اليوم، على الرّغم من خبرة التّاريخ المعاصر ودروسه! لا لسببٍ إلاّ لأنّها أحاطت هذا النّظام التّمثيليّ بالحُرْم، ولم تَضَعْهُ موضعَ فحصٍ ومراجعة على الرّغم ممّا شَهِد عليه – في حقبته المعاصرة – من أزْمات انفجاريّةٍ حادّة!
ماذا تكون النّازيّةُ، في الغرب المعاصر، غيرَ تلك الثّمرة المُرّة لصناديق الاقتراع؟ لم يَصِل «الحزب النّازيّ» إلى السّلطة في ألمانيا بانقلابٍ عسكريّ انْقضّ على القواعد والأعراف والآليات الدّيمقراطيّة، بل من طريق الآليات الدّيمقراطيّة عينِها وصل؛ بأصوات غالبيّة النّاخبين الذين حملوهُ إلى السّلطة. وهو لم يكن حزباً دينيّاً متطرِّفاً معادياً لـِ”مدنيّة الدّولة”، بل مدنيّاً كان، وحزباً وطنيّاً ابتغى الانتقام لألمانيا ممّا لحقها من حيْف في “مؤتمر باريس” بعد الحرب العالميّة الأولى. ولكنّ وطنيّته كانت مغلقة، شوفينيّة و، بالتّالي، أتت محمولةً على مشاعر الثّأر من أوروبا ومن قسم من رعايا ألمانيا نَمَتْ مشاعرُ العنصريّة الجماعيّة ضدّها، واتُّهمت في صِدق ولائها للدّولة.
فضحتِ النّازيّةُ النّظامَ الدّيمقراطيّ في ألمانيا، وبلدان الغرب رُمّةً، وكشفت عن أعطابه وهشاشة تكوينه، وما في جوفه من آليات قابلة للاشتغال ضدّه والانقضاض عليه. ولقد تبيّنت مَخَاطر ذلك أكثر من معاينة كيف كان للنّازية وقائدها أتباعٌ ومعجَبون كُثر في أوروبا كلِّها، وكيف كان في جملتهم مفكّرون وأدباء وفنّانون وسياسيّون من عِلْيةِ النّخب! لذلك ما كان مستغرباً أن تَصْدم حادثةُ النّازيّة الوعي الأوروبيّ فتسْتجِرّ نقداً حادّاً: لا للنّازيّة فحسب، ولا للدّيمقراطيّة فحسب، بل لنموذج الدّولة الوطنيّة ذاتِه الذي أنجب هذا النّظام الدّيمقراطيّ وتنزّل من هندسته السّياسيّة منزلةَ الأُسّ الأساس.
أخفق الغرب في استيعاب أزمته السّياسيّة البنيويّة التي كشفت عنها الهزّة العنيفة التي أحدثتْها النّازيّة في صرْح النّظام الدّيمقراطيّ. وهو أخفق في ذلك على الرّغم من حيازة مراكز القرار فيه وأحزابه وقواه لتراثٍ هائلٍ من المراجعات الفكريّة للنّموذج المتأزّم. تَعَامل مع النّازيّة وكأنّها مجرّد انحرافٍ في المسار، أو مجرّد أزمة موضعيّة قابلة لعلاجٍ موضعيّ! واليوم، ها هي المخاطر إيّاها تنمو؛ ها هي نازيّات جديدة تكبر في أحشاء المجال السّياسيّ في كثير من بلدانه: في ألمانيا نفسها، وفي النّمسا وفرنسا وهولندا وغيرها. وهي قوًى يُعلن بعضُها، جهاراً، عن نازيّته فيما يخفي ذلك بعضُها الآخر من دون أن يَقْوى على إخفاء جوهره العنصريّ واليمينيّ المتطرّف. إنّ هذه القوى تتمتّع، اليوم، بقاعدةٍ شعبيّة معتَبَرة، وبعضُها بشعبيّة كاسحة (مثل “الجبهة الوطنيّة” في فرنسا). ولقد تكون قادرة على أن تملأ صناديق الاقتراع، في الزّمن المنظور، وعلى اكتساح مجال السّلطة: باسم الدّيمقراطيّة والشّرعيّة!
أخفق الغرب في استيعاب أزمته السّياسيّة البنيويّة التي كشفت عنها الهزّة العنيفة التي أحدثتْها النّازيّة في صرْح النّظام الدّيمقراطيّ. وهو أخفق في ذلك على الرّغم من حيازة مراكز القرار فيه وأحزابه وقواه لتراثٍ هائلٍ من المراجعات الفكريّة للنّموذج المتأزّم. تَعَامل مع النّازيّة وكأنّها مجرّد انحرافٍ في المسار، أو مجرّد أزمة موضعيّة قابلة لعلاجٍ موضعيّ! واليوم، ها هي المخاطر إيّاها تنمو؛ ها هي نازيّات جديدة تكبر في أحشاء المجال السّياسيّ في كثير من بلدانه: في ألمانيا نفسها، وفي النّمسا وفرنسا وهولندا وغيرها. وهي قوًى يُعلن بعضُها، جهاراً، عن نازيّته فيما يخفي ذلك بعضُها الآخر من دون أن يَقْوى على إخفاء جوهره العنصريّ واليمينيّ المتطرّف. إنّ هذه القوى تتمتّع، اليوم، بقاعدةٍ شعبيّة معتَبَرة، وبعضُها بشعبيّة كاسحة (مثل “الجبهة الوطنيّة” في فرنسا). ولقد تكون قادرة على أن تملأ صناديق الاقتراع، في الزّمن المنظور، وعلى اكتساح مجال السّلطة: باسم الدّيمقراطيّة والشّرعيّة!