بقلم: د. إبراهيم النحاس – صحيفة “الرياض”
الشرق اليوم – إدراك الواقع غاية في الأهمية للتنبؤ بالمستقبل، وفي حالة المنطقة العربية وما جاورها من دول شرقاً وشمالاً وجنوباً – المعروفة سياسياً بمنطقة الشرق الأوسط – تتأكد أهمية إدراك الواقع لما لهذه المنطقة من مكانة استراتيجية في السياسة الدولية على جميع المستويات وفي كل المجالات. فإذا أضفنا لهذه المكانة الاستراتيجية للمنطقة العربية: المكانة التاريخية التي خلدتها هذه المنطقة في تاريخ البشرية على المستويات الحضارية والثقافية والعلمية والإنسانية، والمكانة السياسية المُركبة والمُعقدة التي عليها هذه المنطقة على مدى تاريخها الممتد نتيجة للتعددية العرقية والثقافية والحضارية والتنافس الإمبريالي والأطماع الاستعمارية والصراعات الدولية المركبة، فإننا نجد أنفسنا أمام منطقة جغرافية تجاوزت في أثرها السياسي والاقتصادي والأمني حدودها الجغرافية لتؤثر في السياسة الدولية على جميع المستويات، فإذا تم إدراك هذه الحقائق التاريخية المركبة والمعقدة، فإنها ستساعد كثيراً في قراءة الحراك السياسي القائم إقليمياً وينبئنا بالمستقبل المنتظر.
إن المتابع للأحداث السياسية التي تشهدها هذه المنطقة العربية الممتدة وجوارها – الشرق الأوسط – يلاحظ أنها تشهد حراكاً سياسياً نشطاً جداً يتجاوز في نشاطه حجم الوعي والإدراك السائد في المنطقة. فبدلاً من أن يكون الأمن القومي العربي هماً عربياً مشتركاً، وغاية سياسية منشودة، ومطلباً شعبياً قائماً، تداخلت المفاهيم العربية بالإقليمية ليكون المفهوم السائد الأمن الإقليمي بضبابية مفهومه بدلاً من الأمن القومي العربي، إن هذا التحول في المفهوم الاستراتيجي للأمن حتماً يتبعه تحولات جذرية في مفاهيم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية وعسكرية وغيرها من مفاهيم تؤثر بطبيعة الحال على العلاقات السياسية القائمة في المنطقة، وهنا يُصبح إدراك الواقع مُهم جِداً لأنه سيتبعه تعريف من الشريك الاستراتيجي، ومن الصديق الحقيقي، ومن العدو الذي يجب الحذر منه؟
إن هذه المنطقة العربية تشهد في واقعنا الحالي تداخلات سياسية عميقة وغير طبيعية وغير مسبوقة في تاريخها البعيد والقريب، ولكنها بطبيعة الحال لم تكن مستغربة للمتابع للحراك السياسي على مدى ثلاثة عقود ماضية. إن هذه التداخلات السياسية متشعبة ومتعددة ومعقدة: فهناك تداخلات عربية – عربية على الرغم من تناقضاتها في المصالح والأهداف والغايات، وهناك تداخلات عربية – إقليمية لتحقيق مصالح بعيدة المدى، وهناك تداخلات إقليمية – إقليمية على حساب المصالح العربية، وهناك تداخلات إقليمية – عالمية لزيادة نفوذها الإقليمي على حساب المنطقة، وهناك تداخلات عالمية – عالمية تسعى لتعزيز مكانتها الدولية ونفوذها العالمي على حساب المنطقة العربية. وفي ظل هذه التداخلات الدولية المعقدة والمركبة والغريبة تجد المنطقة العربية نفسها أمام حالة تاريخية جديدة تتطلب مراجعة سياسية عميقة وواعية لتتجنب هذه المنطقة العربية مزيداً من حالة الإرهاق السياسي، والاستنزاف الاقتصادي والهدر المادي والمالي، والتفتت والانقسام الاجتماعي، وزعزعة أمن وسلم المجتمعات العربية المسالمة.
وإذا كانت حالة التداخلات الدولية غير المسبوقة قائمة في المنطقة العربية، فإن الذي يضاعف مستويات خطرها على المنطقة العربية هو ما احتوته وتضمنته طبيعة تلك التداخلات الدولية. فإذا كانت هذه التداخلات التي تشهدها المنطقة العربية تبدو غير طبيعية وغير مسبوقة، فإننا يجب أن نقرأ بدقة ووعي وإدراك في الأسباب التي قادت لإقامتها، والأهداف التي يُراد تحقيقها، والغايات التي يُراد التوصل لها، والأدوات التي يتم استخدامها، والوسائل التي يُعمل من خلالها، والأساليب التي يتم توظيفها. إن هذه القراءة السياسية الدقيقة والواعية والعميقة تساعدنا في التنبؤ للمستقبل حول الأهداف والغايات التي تسعى تلك التداخلات الدولية لتحقيقها على أرض الواقع، فبناء على هذه التداخلات الدولية – بمستوياتها المختلفة – ستقام علاقات سياسية بين هذه الأطراف لغرض تحقيق الأهداف والغايات المنشودة، وبناء عليه نستطيع القول إن هذه العلاقات التداخلية هي علاقات من أجل تعزيز المكانة الدولية لطرف على حساب الأطراف الأخرى، أو أنها علاقات من أجل تحجيم المكانة الدولية لطرف آخر في المنطقة أو الإقليم، أو أنها علاقات من أجل تأليب وتأجيج حالة الصراع في المنطقة أو الإقليم لاستنزاف موارد وقدرات طرف أو أطراف محددة، أو أنها علاقات من أجل زيادة حالة التنافس الدولي في المنطقة أو الإقليم لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو مادية أو أمنية، أو أنها علاقات تنسيقية لاستدراج طرف أو أطراف في المنطقة أو الإقليم لإضعاف مكانته وإخراجه من المعادلة السياسية الإقليمية.
وبقراءة هادئة وواعية وعميقة للحراك الإقليمي نجد هناك شبكة من التداخلات الدولية لم يشهدها التاريخ من قبل، ولم تكن منتظرة، ومعظمها قائم على أسس غير صحيحة وغير سليمة، ومصالح متناقضة، وثقافات متنافرة، تجعل من المستحيل استمرارها بهذا الشكل غير الطبيعي، وتُنذر بحالة صراع غير مسبوقة وتنافس غير مُتزن يُخشى أن يكون على حساب المنطقة العربية ومصالحها الاستراتيجية.
وفي الختام من الأهمية القول إن المنطقة العربية عليها إدراك أن حالة الحراك الإقليمي والدولي غير المسبوقة تتطلب قراءة عميقة ودقيقة وواعية خاصة أن التفاعلات الإقليمية والدولية التي لم تتوقف لحظة واحدة هدفها السيطرة الكاملة على المقدرات والموارد العظيمة التي تضمها أراضي المنطقة العربية الممتدة من أقصى الشرق وحتى أقصى الغرب، إنه الوعي والإدراك الذي يجب أن يكون من قبل الجميع لتتعزز المكانة الدولية للمنطقة العربية.