بقلم: د. حسان أبو طالب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم- مواجهتان كبيرتان تسيطران الآن على علاقة الولايات المتحدة مع كل من الصين وروسيا. لكل منهما تداعياته وأسبابه، والتي تدور حول مبدأ راسخ تؤمن به واشطن، سواء في عهدة الجمهوريين أو الديمقراطيين، ألا تهدد قوة ما الهيمنة الأميركية على تصرفات النظام الدولي. مبدأ الحرب في السياسة الأميركية موجود وكامن ويتم اللجوء إليه إذا استدعت الضرورة ذلك من وجهة نظر الأمن القومي. في مواجهة القوى الأصغر والأقل قدرة يمكن للحرب أن تكون أداة فعالة لخدمة مصالح المؤسسة السياسية العسكرية المسيطرة على القرار الأميركي، يبررها السياسيون بمفردات النفوذ والريادة، ويستخدمها صانعو السلاح ومن يواليهم من رجال الكونغرس والإعلام لتبرير صنع أسلحة أكثر تقدماً وتطوراً وأكثر تكلفة.
هذه الصيغة تعرضت للكثير من الاختبارات والأزمات والإخفاقات الكبرى، آخرها ما جرى في أفغانستان، ومن قبل في فيتنام وحالات أخرى عديدة شرقاً وغرباً، ومع ذلك ما زال هناك من ضمن المخططين الاستراتيجيين الأميركيين من يرى أنها الأسلوب الذي لا يجوز التخلي عنه مع أي قوة ترنو إلى تحقيق تقدم وتفوق على الريادة الأميركية، والقصد هنا موجه بالأساس إلى روسيا والصين. في المقابل هناك من ينتقد هذا التوجه الطاغي الآن في المجالين السياسي والإعلامي، محذراً من أن الحرب الآن مع أي من هاتين القوتين مسألة محفوفة بالمخاطر وتنذر بكارثة للنظام الدولي بأسره، وعواقبها لا يمكن التكهن بها لسبب بسيط، وهو أن نوعية السلاح الآن المتوفر لدى هاتين القوتين، ومدى استخدامه للذكاء الصناعي، غير معروف بدقة لدى الولايات المتحدة. أكبر المحذرين لشعار الحرب هو هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق والمحلل الاستراتيجي المشهود له علماً وتجربة.
على مدى الأربعة أعوام الماضية، نتيجة الأسلوب الذي انتهجه الرئيس السابق ترمب لمواجهة الصين والضغط عليها وشيطنتها إعلامياً ودعائياً، وشن الحروب التجارية وفرض العقوبات الاقتصادية والتكنولوجية على شركاتها الكبرى، كانت دعوة كيسنجر بضرورة الحذر في التعامل مع الصين، والتخفيف من محاولات عزلها، وبدء حوار معها لوضع قواعد تنظم المنافسة بينهما، وتمنع الانزلاق إلى حرب لا يعلم أحد كيف ستنتهي وماذا ستحقق. في حوار أخير نُشر قبل ثلاثة أسابيع، وبعدها حوار تلفزيوني، أعاد كيسنجر تحذيراته من الانزلاق إلى حرب مع الصين، مشدداً أكثر على أن الجهل الأميركي بطبيعة ومدى التفوق الصيني في مجال الذكاء الصناعي بوجه عام، وفي المجال العسكري بوجه خاص، من شأنه أن يقود إلى تفكير جديد بشأن الصين. يقترح كيسنجر هنا أن يكون هناك حوار متدرج من أجل؛ أولاً وضع ضوابط للمنافسة تقيد التورط والانزلاق ولو عن طريق الخطأ العابر إلى مواجهة عسكرية غير محددة المعالم، وثانياً أن يكون هناك حوار يفتح أبواب المعرفة بمدى التفوق الصيني في مجال الذكاء الصناعي على أساس تبادل المعرفة كجزء من عملية بناء ثقة، وبما يحول دون اتخاذ قرارات خاطئة وحسابات تفتقر إلى الكفاءة. وعملياً يقترح كيسنجر أن يعين كل من الرئيسين بايدن وشي شخصين محل ثقة لكل منهما، يكونان على تواصل دائم لتبادل الأفكار وتوضيح المواقف ونقل الاستفسارات وتلقي الإجابات. والهدف تعزيز التواصل ومنع التقديرات القائمة على الظن وحسب، وبالتالي الابتعاد عن كل دعوات عزل الصين.
كيسنجر موصوف في عالم الاستراتيجية بأنه أحد رموز الواقعية في العلاقات الدولية، متأثر بأفكار توازن القوى في أوروبا القديمة قبل الحرب العالمية الأولى، والمرتبطة ببناء نظام يحقق قدراً من العدالة والإنصاف للمنتمين إليه، وبما يمنع نشوء قوة صاعدة أو قوى تعديلية أو ثورية تجهض هذا النظام. بالطبع هذه الأفكار في مجال التطبيق التي أشرف عليها كيسنجر نفسه إبان توليه حقيبتي مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية في إدارتي الرئيسين نيكسون وفورد، تجاه الاتحاد السوفياتي السابق والصين وفي الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي تحديداً، ليست ناجعة تماماً، وكثير من تلك التطبيقات العملية أدت إلى عكس ما نادى به كيسنجر نفسه. وأبرز الانتقادات التي توجه إليه في الأسابيع الماضية أنه المسؤول الأول عن فتح الطريق أمام الصين لتصبح قوة طبيعية في النظام الدولي، تعمل بجد على إزاحة الولايات المتحدة من قمته، وحققت نجاحاً كبيراً وباتت مصدر تهديد غير معروف أبعاده بعد.
الانتقادات وبعضها صحيح تماماً لا تلغي أهمية التحذير من الوقوع في شرك حرب عبثية. ربط التحذير بأسلحة الذكاء الصناعي غير معروف قدراتها بعد، وكثير منها يشكل من خلال وصفه البسيط مصدر تهديد لا رادع له، كالصواريخ الفرط صوتية وأسلحة الليزر وأسلحة الطاقة والطائرات الخفية والمسيرة عن بعد والصواريخ الذكية الموجهة من قاع البحار، سواء من قواعد تحت السطح أو غواصات نووية، كلها تجعل من أي مواجهة عسكرية تستخدم فيها بعض أو كل تلك الأنواع من الأسلحة الغير معروفة نتائجها وتأثيراتها، قراراً خطيراً وكارثياً بكل المعايير، ليس فقط على القوى المتورطة في تلك الحرب، بل على العالم بأسره. فالكل خاسر من دون أدنى شك. فضلاً عن أي حرب لا بد أن يكون لها هدف معلن؛ فهل هو التدمير واسع المدى وحسب، أو الاحتلال أو تغيير النظام؟ ومن يحتل من؟ ومن يأمن من عدم رد الطرف الآخر بتدمير أكبر؟ الإجابة القاطعة على أي من هذه الأسئلة الشائكة يعكس في الحقيقة الحجم الهائل من العبثية في أي تفكير يجعل الحرب خياراً قابلاً للتطبيق.
ما ينطبق على أي مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة والصين ينصرف أيضاً إلى العلاقة مع روسيا. التحذيرات الغربية المكثفة والمتتالية منذ أشهر لموسكو بعدم الإقدام على عمل عسكري ضد أوكرانيا، وإن كان في ظاهره دعوة للتعقل، فهو أيضاً مثير للريبة. لا سيما في ضوء توسع الناتو في اتجاه الحدود مع روسيا، وتقديم أسلحة حديثة ومتطورة أميركية لأوكرانيا، وتنفيذ مناورات في البحر الأسود استخدمت فيها الطائرات الأميركية الاستراتيجية الحاملة لقنابل نووية بالقرب من المجال الجوي لروسيا في حدود 20 كم حسب بيان وزارة الدفاع الروسية، وهو مدى قريب للغاية، يعكس تدريباً جدياً على توجيه ضربة نووية لروسيا من جهتي الغرب والجنوب، حسب التفسيرات الرسمية الروسية. يلفت النظر هنا المحادثة الهاتفية بين رئيسي الأركان الأميركي والروسي، والتي تعكس بدورها حجم التوتر الكامن، في الوقت ذاته مسعى لاحتواء أي نتائج غير متوقعة. ورغم عدم نشر أي معلومات حول مضمون المحادثة، لكنها مؤشر واضح على أن ثمة آليات يمكن الرجوع إليها لوضع حد لعدم التورط في استنتاجات خاطئة وضبط ردود الأفعال. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لروسيا النووية، فهو مطلوب أيضاً للصين المُسلحة بالذكاء الصناعي.