بقلم: محمد حسين أبو الحسن – النهار العربي
الشرق اليوم – في ساحة المبارزة بين العملاقين، أميركا والصين، تشير الشواهد إلى أنهما يسيران في مسار تصادمي في مناطق عدة في العالم، ما دفع الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى تحذير نظيره الأميركي جو بايدن، خلال قمتهما الافتراضية الأخيرة، من سياسة “اللعب بالنار” أو تجاوز الخطوط الحمر لبلاده، بينما لم ينكر جو بايدن سخونة المنافسة وحدّة الخلافات بين الدولتين، لكنه طالب بإدارتها برشد، بعيداً من العصبية أو الانزلاق إلى أخطاء مقصودة أو غير مقصودة تفتح أبواب الجحيم. يكفي أن تظل مجرد منافسة بسيطة نزيهة، حيث يدرك الطرفان صعوبة ذلك في ظل التحولات المتسارعة وفوائض القوة لدى كل طرف، ولهاثه لجذب الحلفاء إلى ميدان الصراع!
القمة الافتراضية
استغرقت القمة الافتراضية بين بايدن وشي جين بينغ ثلاث ساعات، في محاولة لتقليل التوتر المتصاعد، بين واشنطن وبكين، برغم استمرار خلافاتهما حول قضايا المناخ وحقوق الإنسان وتايوان وكوريا الشمالية وإيران والطاقة والتجارة وكورونا، لكن لم تكد القمة الافتراضية تنتهي، حتى جرى تسريب خبر مفاده بأن الصين أطلقت في 27 تموز (يوليو) الماضي صاروخاً أسرع من الصوت من مركبة فضائية نووية، في منتصف رحلتها الفضائية، في حدث وصفته المخابرات الأميركية بأنه إنجاز تقني غير مسبوق. ووفقاً لصحيفة “الديلي ميل” البريطانية فإن التجربة الصاروخية الصينية أصابت البنتاغون بالصدمة والحيرة، لأنها “تتحدى قوانين الفيزياء”، بإطلاق سلاح من مركبة أسرع من الصوت، ما أثار القلق العميق لدى حلفاء واشنطن في جنوب شرقي آسيا وحول العالم، إزاء نجاعة وقدرة استراتيجية أميركا لاحتواء الصين؛ بخاصة بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
رسمت مشاهد الأفغان الذين يحاولون الحصول على مكانٍ في طائرة عسكرية أميركية تغادر كابول، مخاوف لا تُمحَى في عواصم شرق آسيا الحليفة لواشنطن، عن تراجع القيادة الأميركية، بحسب مجلة “فورين بوليسي”؛ فعندما انحسرت مياه النار الأميركية من فوق الأرض الأفغانية ظهرت آثار الأقدام الصينية مغروسة. وتراقب العواصم الآسيوية من كثب، وإن نظر بعضها إلى الانسحاب باعتباره نهجاً أميركياً إيجابياً، بدأه باراك أوباما وأرساه دونالد ترامب وينفذه جو بايدن، كجزءٍ من مخطط الاتجاه صوب المحيطين الهادئ والهندي، لتطويق الصعود الصيني.
يقوم التحوُّل الاستراتيجي الأميركي على بناء “تحالفات مفيدة” وتقليص “الشراكات المكلفة”، وإرساء إطار عمل متعدِّد الأطراف للتعامل مع الصين؛ مستغلة أنه لا دولة في المحيطين الهادئ والهندي تريد هيمنة بكين على النظام الإقليمي؛ لذلك عقد بايدن قمة رباعية، في شباط (فبراير) الماضي، ضمت زعماء أستراليا والهند واليابان. وفي نيسان (أبريل) الماضي التقى بايدن رئيسَ الوزراء الياباني والرئيس الكوري الجنوبي، للعمل سوية للتضييق على التنين، فيما وصف بأنه “ردع بالكلمات” للصين، ثم أتت مخرجات “تحالف العيون الخمس” الاستخباراتي وصفقة الغواصات النووية الأميركية لأستراليا، لتضع نظرية الردع عملياً فوق الأرض وتحت مياه المحيط، مع دفعها إلى أفق صدام محسوب، بالتعاون مع الدول ذات التفكير المماثل في المحيطين الهادئ والهندي؛ لضمان الفوز بالمنافسة الإستراتيجية مع الصين.
مخاطر العداوة
تعمل الإستراتيجية الأميركية على إعادة بناء النظام التجاري ودمج الولايات المتحدة؛ بحيث يمكن لدول المحيطين الهادئ والهندي تقليل اعتمادها الاقتصادي على الصين، وتمد يدها إلى شركائها لحماية التوازن العسكري في آسيا من الاختلال لمصلحة بكين. بيد أن الاستجابة لذلك تختلف من دولة إلى أخرى؛ اليابان وأستراليا كلاهما حليفان لأميركا، وهما الأكثر قدرة بين دول المنطقة على تحمل مخاطر العداوة مع الصين، ومواجهة التنين، وبعدهما تأتي الهند وكوريا الجنوبية، أما الدول القريبة من الصين والتي تعتمد عليها تجارياً، مثل لاوس وميانمار (بورما) وكمبوديا فلن تجازف باستعداء بكين أو دعم واشنطن، كلما زاد التوتُّر بينهما.
وإذا كانت الصين تتحدى “قوانين الفيزياء” في تجاربها الصاروخية، فإنها بالأحرى ترفض الخضوع للهيمنة الأميركية على النظام الدولي الممتدة منذ الحرب العالمية الثانية؛ وكقوة مطلقة الحرية في ممارسة النفوذ بالمحيط الهادئ وجنوب شرقي آسيا، تعتقد الصين أن أوزان الدول العظمى تغيّرت، ومن حقها الاعتراض على استمرار هيمنة أميركا. الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وقد يتجاوز ناتجها الإجمالي مثيله الأميركي بحلول 2030. ولا يفتأ الرئيس الصيني يشدد على ضرورة الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح بين بلاده والولايات المتحدة، داعياً الرئيس بايدن إلى “إعادة السياسة الأميركية تجاه بلاده إلى مسار عقلاني وعملي”.
ترجح مقاييس التنمية كفة الاقتراب الصيني الحذر والمتدرج من قمة النظام الدولي. تستثمر الصين فوائض القوة الاقتصادية في التمدد سياسياً وعسكرياً في الكتلة الأوراسية وغيرها، وتترجم هذه الفوائض في عقد شراكات مع محيطها الإقليمي وروسيا وأوروبا وأفريقيا، كما تسعى بدأب لكسر التوازن الاستراتيجي، خصوصاً في التكنولوجيا والتسلح التقليدي وغير التقليدي، ولعل التجربة الصاروخية الأخيرة تشكل اختراقاً في هذا السباق مع أميركا، برغم أن ميزانية الدفاع الصينية بلغت 230 مليار دولار توازي 14 في المئة من ميزانية الدفاع الأميركية عام 2020. وترجمة ذلك على الصعيد الجيوسياسي، أن الصين لن تنحني لأي طرف مهما يكن الثمن لا سيما في قضية تايوان؛ فالعالم لا يحترم إلاّ القوي بحسب تصريح للرئيس شي جين بينغ الذي يرى أن الدبلوماسية الفعّالة تستدعي إسقاط القوّة على كل الجبهات، سياسياً واقتصادياً وجغرافياً.
ملء الفراغ
أبرز الأولويات الصينية هي بسط سلطانها في بحر الصين والسيطرة على جزره وثرواته وممراته الحيوية، بعيداً من الأيدي الغربية، وهي تقدم نفسها بديلاً للولايات المتحدة في البنية الأمنية والاقتصادية لجنوب شرقي آسيا؛ فقد أنشأت منظمة شانغهاي للتعاون الاقتصادي، بدعم من روسيا وباكستان، على أمل أن تتطور يوماً لتصبح نظيراً أو بديلاً لحلف شمال الأطلسي، مستغلة حالة التراجع الأميركي؛ لتملأ الفراغ الذي تأباه الطبيعة.
ويستعد الرئيس شي جين بينغ لولاية رئاسية ثالثة، وسط خشية البعض من عودة الاختلالات القيادية التي عصفت بالحزب الشيوعي الحاكم في فترات سابقة، ما قد يدفع الصين إلى مسار آخر، لكن السيناريو الكابوسي بالنسبة إلى جين بينغ هو فشل الإصلاح والعزلة الدولية، والأزمة المالية يمكن أن توقف صعود الصين إلى قمة النظام العالمي؛ إذ يمكن لتعثر الإصلاحات الاقتصادية وتوتر العلاقات العالمية، والأزمة المالية، أن تتضافر كلها لتُبقي الصين في المرتبة الثانية إلى أجل غير مسمى، وقد أشار جوزف ناي، أستاذ العلوم السياسية المرموق بجامعة هارفرد، إلى أن الصين تواجه بالفعل مشكلات اقتصادية وديموغرافية وسياسية، ولديها القليل من الحلفاء السياسيين، وقال إنه إذا نسقت الولايات المتحدة واليابان وأوروبا سياساتها، فستظل تمثل الجزء الأكبر من الاقتصاد العالمي، وتكون لديها القدرة على تشكيل السلوك الصيني، مضيفاً أن هذا التحالف هو لب استراتيجية إدارة صعود الصين.
بينما جادل رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق، كيفين رود بأن الهدف من المنافسة الغربية مع الصين ليس الانتصار الكامل على تهديد وجودي، بل “منافسة استراتيجية مُدارة”، موضحاً أن هذا يتطلب من أميركا وحلفائها النظر للعلاقات مع بكين، بوصفها “تنافساً تعاونياً”، وليست على غرار المنافسة بين أميركا والاتحاد السوفياتي السابق في القرن العشرين. لكن أصواتاً كثيرة في الغرب تؤكد احتمال نشوب حرب عالمية في مرحلة مقبلة، كشرط تاريخي ضروري لحماية النظام العالمي من “التغول أو التهديد الصيني”!
في المعارك يولد الاستخفاف بالخصوم الرضا عن النفس، أما المبالغة في تقدير إمكاناتهم فإنها تولد الخوف، وكلاهما يقودان الى سوء العواقب، ومن ثم فإن المبارزة بين العملاقين مرشحة للاحتدام، والترويج لخيار التهدئة، في حسابات “تقدير الموقف” على أنه مرجّح لإعطاء قناعة بأن النار بعيدة هو بمثابة طمأنة زائفة، لأنها طمأنة بغير طمأنينة. وذاك حديث آخر.