بقلم: سمير عمر – سكاي نيوز
الشرق اليوم- في أعقاب الاحتفال الأسطوري بافتتاح طريق الكباش في مدينة الأقصر المصرية، وبجرأة الجهل التي لا تخلو من حقد على أي شيء حققه أو يحققه المصريون كتب أحدهم – يحمل الجنسية المصرية بالمناسبة – :
“بخصوص الحديث عن أمجاد الفراعنة وباستثناء تجبرهم وتسخيرهم المصريين لبناء “نصب من الحجارة ” تخليدا للفرعون “الطاغية”، وتحنيط جثمانه هو وحاشيته وكهنته، ما الذي قدمه الفراعنة للبشرية من إنجازات أحدثت فارقا حضاريا، ولماذا مصر كانت في عهدهم فضاءً مستباحا للغزو الأجنبي من كل الجنسيات؟.”
وقد لاقى ما كتبه استحسانا واسعا في صفوف القطيع الإخواني، وبدأت جوقة الجهل في إعادة إنتاج تخاريف المتأسلمين عن تاريخ مصر والمصريين.
يتساءل من بدأ وصلة الجهل عما قدمه المصريون القدماء للبشرية، ولا يعلم أن طالبي العلم في العالم القديم كانوا يقصدون مصر للتعلم على يد علمائها الأجلاء في الطب والرياضيات والفلك وغيرها من علوم هذا الزمان، فأول جراحة دماغ في التاريخ أجريت في مصر قبل أكثر من ألفي عام، واخترع المصريون القدماء المشرط ذا الحدين للشق الحنجري ولا زال هذا المشرط بتصميمه المصري القديم هو المعمول به حتى الآن ، وابتكروا خيوط الجراحة من أمعاء القطط، كما عرف المصريون القدماء التخدير الموضعي بخلط حامض الخليك، وعلى رخام من حجر ممفيس ابتكروا كرسي الولادة، واكتشفوا سرطان الثدي “المرض الخبيث كما سموه ومازال المصريون يطلقون عليه ذات الاسم” وغير ذلك الكثير في علوم الطب، ومن الطب إلى علوم الرياضيات والفلك وآثار مصر الفرعونية خير شاهد على ما وصلوا إليه من إبداع وإعجاز علمي بكل المقاييس ،ولا يتسع المجال هنا بالطبع لسرد ما قدمه المصريون القدماء من إنجازات أحدثت فارقا حضاريا.
الجهل بالتاريخ
وواصل من بدأ وصلة الجهل ساخرا لماذا مصر كانت في عهدهم فضاءً مستباحا للغزو الأجنبي من كل الجنسيات؟
وهو بجهله وحقده لا يعرف أن ما من بلد في التاريخ لم يتعرض أو يخضع للغزو والاحتلال طويلا أو قليلا كما يقول جمال حمدان في ” شخصية مصر ” حيث يواصل : المهم اعتبار الظروف الموضوعية ومدى المقاومة وفي مصر عاشت الدولة المستقلة أو الامبراطورية المطلقة نحو 2400 سنة من 3400 إلى 1000 قبل الميلاد ثم تلتها 700 سنة مناصفة تقريبا بين الاستقلال والاحتلال ثم ألف عام من الاحتلال فتلك 2700 سنة من الاستقلال مقابل 1300 سنة من التبعية ويواصل جمال حمدان : بل إننا إذا أضفنا – كما يفعل فيرجريف – تاريخ ما قبل التوحيد لامتد عصر الاستقلال إلى 4000سنة كاملة لم تخضع مصر فيها لأي غزو أجنبي والخلاصة أن أكثر من 70 بالمئة من تاريخ مصر القديم لم تخضع فيه لأي غزو أجنبي، والأهم من ذلك ما يسميه جمال حمدان ” ملكة الامتصاص ” حيث يقول : في مواجهة موجات الغزو الخارجي كانت مصر تمارس ” الغزو من الداخل ” بمعنى أنها دائما كانت بقوة امتصاص نادرة وحيوية بيولوجية تبتلع وتهضم بها معظم العناصر الوافدة حتى تصهرها كأنها البوتقة في الجسم الكبير أو على حد تعبير العالم جوستاف لي بون الذي قال : شعوب كثيرة غزت مصر لكن البلاد استطاعت مع ذلك أن تهضم هؤلاء الفاتحين جميعا “
طبعا جوقة الجهل والحقد الأسود على مصر والمصريين لا يقرأون وإن قرأوا فإنهم لا يعقلون، وإن عقلوا حرمهم سواد قلوبهم من الاعتراف بأن مصر أكبر من تخاريفهم وتاريخها أعز وأجل من هلاوسهم.
هزل في مقام الجد
وعلى الجانب الآخر من ترعة الجهل الآسنة غرد من يحظى بمتابعة معتبرة على وسائل التواصل الاجتماعي قائلا: كان يوم إسود يوم ما تكلمنا عربي” تاركا إكمال الجملة لمتابعيه من مدعي الثقافة ليبدأوا العزف على نغمة إن مصر فرعونية وأن ” الغزو العربي ” لم يزد مصر إلا تخلفا بعد أن ضاعت اللغة المصرية القديمة لتحل محلها اللغة العربية !!!
ولا يعلم هذا ولا من أكملوا عبارته المشوهة شيئا عن تاريخ مصر إلا ما وضع في رؤوسهم الفارغة من أفكار ساذجة، وهنا أعود مرة أخرى لجمال حمدان وكتابه العبقري ” شخصية مصر ” حيث يقول: إن اللغة المصرية القديمة كانت تتضمن كلمات مهمة وعديدة من اللغة السامية، حيث هناك أكثر من عشرة آلاف كلمة تجمع بين المصرية القديمة واللغة العربية، واليوم اللغة أو اللهجة المصرية سائدة في العالم العربي.
ويواصل جمال حمدان: من الثابت أن الهجرة العربية كانت دائمًا موجودة في مصر، وبالتالي فالتداخل والتزاوج موجود بدرجة أو أخرى، وهذا يعني أن تعريب مصر سبق العصر الإسلامي، ومن هنا التداخل الحقيقي والجذور الواحدة لمصر والعرب، ولكل ما سبق يتضح القول إن مصر فرعونية بالجد، عربية بالأب؛ ويجب أن نتذكر أن إسماعيل هو أبو العرب العدنانيين، وأن سيدنا إبراهيم جذوره عراقية، وأن “ستنا” هاجر مصرية، وهذا يعني أن العرب أصلا أنصاف عراقيين وأنصاف مصريين.
فمصر وثيقة من جلد الرق، الإنجيل مكتوب فوق هيردوت وفوق ذلك القرآن، وخلف الجميع لا تزال الكتابة المصرية القديمة مقروءة جلية، ولذلك يمكن القول إنه إذا كانت جغرافية مصر تراكبية في الأساس، فإن تاريخها تراكمي في الدرجة الأولى، ومن هنا فإن الاستمرارية في مصر معتدلة ونسبية
طبعا لم يقرأ هؤلاء جمال حمدان وربما لم يسمعوا به أصلا.
ولأولئك وهؤلاء نقول إن شخصية مصر هي نتاج هذا الخليط المدهش من طبقات حضارية تفاعلت على مر العصور لتنتج تلك السبيكة الوطنية رائعة التكوين التي كانت وستبقى صامدة في مواجهة أعداء الخارج والداخل.