بقلم: محمد جميل أحمد – اندبندنت عربية
الشرق اليوم– ما رشحت به الأخبار من تكوين لجنة بقيادة نائب رئيس “مجلس السيادة” محمد حمدان دقلو “حميدتي” وعضوية محمد أبو القاسم برطم، العضو الجديد في “مجلس السيادة” السوداني، والطاهر حجر وآخرين لحل مشكلة شرق السودان، والمعني بذلك: مشكلة اعتراض المجلس الأعلى لنظارات البجا على “مسار الشرق” الذي هو أحد مسارات اتفاقية سلام جوبا الموقعة بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 لا ينطوي في تقديرنا على أي حكمة أو تقدير إيجابي من طرف الذين اختاروا هذه اللجنة لذلك الغرض.
فما لا يدركه كثيرون في السودان هو أن اعتراض المجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة الناظر ترك على مسار شرق السودان والدعوة إلى إلغائه بطريقة “صَمَديَّة” (كما عبّر بذلك محقاً الكاتب الصحافي حيدر المكاشفي) هو اعتراض سببه الأساسي والحصري سبب عنصري قائم ليس فقط على سؤال: من الذي يحق له أن يوقّع على المسار.
بل كذلك على سؤال: لماذا يوقّع على المسار شخصان ينتمي أحدهما إلى مكوّن بني عامر، والثاني إلى مكوّن العبابدة من شرق السودان، ولأن قومية البجا في رأي أنصار ترك ومن لف لفهم لا تشمل البني عامر والحباب والعبابدة (وهو رأي متحامل لا يسنده أي مرجع تاريخي من الدراسات التاريخية الوافرة التي تعرّف قومية البجا كقومية تشمل في ما تشمل، البني عامر والحباب والعبابدة في مسمّى البجا العام)، فإنه لا يجب أن يوقّع على المسار أشخاص ليسوا من البجا؟!
والسؤال، هو: كيف يمكن لأي حكومة تؤمن بحقوق المواطنة ورئيس حكومة كالدكتور عبدالله حمدوك هو بالتعريف رئيس لكافة مواطني دولته، أن يستجيب لمثل هذا الجند العنصري في دعوى المجلس الأعلى لنظارات البجا من أجل إلغاء مسار شرق السودان؟ هذا يعني أن المشكلة في حقيقتها ليست مشكلة مسار الشرق فحسب، فقد رأينا كيف اعترض الناظر ترك على تعيين الأستاذ صالح عمار والياً لولاية كسلا في العام الماضي للأسباب ذاتها، الأمر الذي يضعنا أمام إشكالية ستظل استعصاء مقيماً أمام كل مقاربة عقلانية وسياسية لمشكلة المسار.
ولطبيعة هذه الدعوى المنبوذة التي يقدمها أنصار المجلس الأعلى لنظارات البجا في المطالبة بإلغاء مسار شرق السودان فقط لأسباب عنصرية، سنجد كثيرين من العقلاء وأهل الرأي بين جميع قطاعات الشعب السوداني وقفوا مع استحقاق المواطنة الذي هو حق أصيل لكل مكون سوداني (كمكون البني عامر والحباب والعبابدة) من حيث المبدأ وإن اختلفوا بعد ذلك حول الذين وقّعوا على مسار الشرق لأسباب لا تتعلق باستحقاقهم المبدئي للمواطنة.
في تقديرنا أن حميدتي لا يمكن أن يضمن أي قدرة على الخروج من هذا المأزق الذي وضع فيه أنصار مجلس ترك أنفسهم برفضهم للمسار لأسباب عنصرية يدركها كل من له عقل، كما أن السيد أبو القاسم برطم كان من الذين تواطأوا مع الناظر ترك في إغلاق الميناء بالدعم والمساندة والمشاركة في التجمعات التي كان يقيمها أنصار الناظر ترك أثناء قفلهم للميناء الجنوبي الشهر الماضي.
فإذا كان حميدتي، الذي جرّب قبل ذلك وساطات من في هذا الملف المعقد وفشل فيها، فإن قدرة السيد أبو القاسم برطم ستزيد المشكلة تعقيداً.
ولقد ظهر اليوم جلياً، بعد انقلاب البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أن الناظر ترك كان متحالفاً معه، كما أن السيد الأمين داؤود الذي جلب مسار الشرق، من قبل، بتحالفه مع الجبهة الثورية (بعد أن تم عزله من التنظيم الذي يقوده وانشق عنه)، أصبح اليوم حليفاً لترك وفي المعسكر الانقلابي الذي أيّد انقلاب البرهان.
إن التسويق الذي يقوده المجلس الأعلى لنظارات البجا، مستثمراً في خطاب كراهية إلى الحد الذي يجعل أتباعه يرددون بلا استحياء بأن مسار الشرق هو مسار “لاجئين” في لقاءاتهم الإعلامية يدل باستمرار على أن الخلفية التي يصدر عنها أنصار مجلس ترك في رفضهم للمسار هي خلفية عنصرية لا يمكن لأي دولة أن تعترف بها، فضلاً أن تستجيب لها.
لذلك رأينا حتى عندما انقلب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر الماضي لم يتجرأ على إلغاء مسار الشرق (كما توقع ذلك أنصار الناظر ترك)، فيما هم يحسبون أن رؤيتهم القبائلية التي تضمر في نفوسهم كقبائل بجاوية عقيدة مقدسة لأرضهم وحيازاتهم القبلية (وهي عقيدة تصطدم بحقوق المواطنة والدستور وبمنطق سيادة الدولة على أراضيها) التي ينبغي أن يستجاب لها!؟
ولمعرفة الخلفية الانعزالية التي تحرّك أنصار المجلس الأعلى لنظارات البجا في رفضهم العنصري لمسار الشرق، من الأهمية بمكان، تفكيك رؤية وخطاب المجلس الأعلى وما يضمره هذا الخطاب من رؤية عنصرية خطيرة تستند إلى وعي قبلي مغلق ومأزوم وخطير على السلم الأهلي والتعايش الوطني في شرق السودان.
وأوضح خطاب لهذا الفهم العنصري هو ما يدعو إليه ويغلّفه بدعاوى مشوهة لفكرة المواطنة والدستور والسيادة، أمثال سيد أبو آمنة، الأمين السياسي للمجلس الأعلى لنظارات البجا، لكنها في حقيقتها دعاوى خطيرة بحجة متهافتة تقوم على أن امتلاك أرض شرق السودان وحيازتها التاريخية من جانب قبائل بجاوية معينة، يتيح لهم أن يكونوا هم (أي منسوبي المجلس الأعلى لنظارات البجا) أوصياء على جميع سكان شرق السودان، ضاربين عرض الحائط بمبادئ الدستور وحقوق المواطنة وما كرّسته الدولة السودانية على مدى قرنين من الزمان من سيادة على أراضيها وحدودها كافة بما يتيح لمواطنيها جميعاً.
وعلى السواء حقوق التملك والعيش والسلطة باستحقاق تلك السيادة. خطورة الخطاب العنصري للمجلس الأعلى لنظارات البجا من خلال الطريقة المسمومة التي يصوّر بها أمثال سيد أبو آمنة أفكاره ويتوهم البناء عليها، سيادة مطلقة لبعض أنصار مجلس الناظر ترك على كل مواطني شرق السودان من المكونات السودانية كافة (ومواطنو شرق السودان من بقية مكونات السودان من غير البجا في مدن شرق السودان الخمس تعدادهم أكثر من البجا) طريقة خبيثة توظف عقيدة قديمة مقدسة لعوام البجا حول امتلاك الأرض وتستثمرها في صراع سياسوي رخيص بلبوس قبلي وأسلوب عنصري مكشوف، لن يجلب إلى شرق السودان إلا الخراب والحروب الأهلية.
لهذا، يجد المتابع لكتابات سيد أبو آمنة، أنه يرى في الناظر ترك مقاماً يبوّؤه مكانة أكبر حتى من مكانة رئيس جمهورية السودان. وفقط بذلك الفهم العنصري الخطير (مع أنه حتى في نظام القبائل القديم الذي كان سائداً في مناطق البجا، ما قبل الدولة السودانية، لم يكُن من حق أي ناظر قبيلة بجاوية أن يكون ملكاً على البجا أجمعين. بل كان كل ناظر قبيلة حاكماً فقط على حدود أراضي قبيلته).
وأصل هذا الفهم القبائلي المدمر لنسيج التعايش بين مكونات الشرق سببه، تسييس نظام الإخوان المسلمين البائد للإدارة الأهلية (نظام القبائل)على مدى 30 عاماً وإيهام نظّار القبائل بأنهم قادة سياسيون! وكان من نتيجة هذا التسييس ظهور مفهوم القبائلية الذي هو بالضبط الفهم السياسوي الذي يتبنّاه المجلس الأعلى لنظارات البجا ويسوّق له أمثال سيد أبو آمنة بدعاوى وتأويلات مضللة وحجج متهافتة لن تؤدي نتائجها إلا إلى الحروب الأهلية، كما رأينا طرفاً منها في الفترة الماضية.
إن مفهوم “القبائلية” مفهوم لا علاقة له، لا من قريب ولا من بعيد، بمفهوم القبيلة وتقاليدها ونظمها القديمة التي كانت تحفظ السلم الأهلي ما قبل الدولة السودانية الحديثة (حيث لم يكُن لقبائل البجا ناظر واحد، بل كان لكل قبيلة ناظر خاص بها يتوارث ملك آبائه ولا يتدخل في ملكه وأراضيه أي ناظر آخر).
هكذا سنجد أن القبائلية هي في الحقيقة وصفة مسمومة لتسييس القبائل (جلبها نظام الإخوان المسلمين فجلب معها شراً مستطيراً لشرق السودان) ولن تؤدي إلا إلى تهديد السلم الأهلي والتعايش الوطني في منطقة حساسة كشرق السودان، وقابلة للانفجار والتدخلات الدولية على حدودها.
كل عاقل مدرك لأساليب وممارسات القبائلية في المجلس الأعلى لنظارات البجا الذي يسوّق لها أمثال سيد أبو آمنة (وهو فهم يعتبر امتداداً لتسييس الإدارة الأهلية الذي كرّسه نظام البشير لكن هذه المرة بعيداً من توظيف نظام البشير السابق الذي كان يتحكم في مسار تسييس القبائل فيلجمه أو يطلقه بحسب قواعد الصراع السياسي التي وضعها في شرق السودان)، سيعرف أن المغزى والهدف الخبيث من توظيف أمثال سيد أبو آمنة لعقيدة الأرض المقدسة عند البجا، هو الاستحواذ على المناصب والمواقع الإدارية والسياسية العليا داخل المدن الرئيسة لشرق السودان، لصالح قيادات مجلس ترك بلا منازع!
وهنا بالضبط سنجد أن أمثال سيد أبو آمنة لا يقصدون بدعاوى الامتلاك المقدس لأرض البجا (التي كانت لا تزال منذ آلاف السنين في معظم أراضي البجا بشرق السودان هي ملك للبجا ولا ينازعها عليهم أحد في البوادي والقرى الواسعة) وإنما يقصدون من ذلك التوظيف، حيازة المناصب والمواقع الرئيسة العليا للسلطة والإدارة كحق حصري لقادة المجلس الأعلى في المدن الكبيرة بشرق السودان، متغافلين عن حقيقة أن المدن الخمس الكبرى في شرق السودان هي مدن قومية بتعريف الدستور السوداني القاضي بموجب حقوق المواطنة وسيادة الدولة على أراضيها باستحقاق وأهلية كافة مواطني تلك المدن من البجا وغير البجا، بأن يكون لهم الحق الأصلي على السواء في السلطة والتملك بالشروط التي يكفلها الدستور وحقوق المواطنة وشروط الأهلية والكفاءة العلمية.
هنا تحديداً سندرك خطورة الفهم العنصري الخبيث الذي يسوّق له أمثال سيد أبو آمنة ومن لف لفه من أجل تكريس حقوق حصرية لمنسوبي مجلس ترك في مناصب ومواقع ووظائف سياسية عليا لحكم مدن شرق السودان الرئيسة، مهدرين بذلك حقوق المواطنة والدستور وسيادة الدولة السودانية على أراضيها بذلك الفهم القبائلي المسموم؟!
إن هذا الفهم العنصري الذي يسوّق له أمثال سيد أبو آمنة نتيجته المنطقية والحصرية هي: إقصاء مواطني شرق السودان كافة من غير البجا والنظر إليهم كأغراب ودخلاء وجاليات، ولا يخفى على أحد: أن هذا الفهم العنصري الخطير سينتهي في النهاية إلى الحروب الأهلية، إذا ما نازع مواطنو شرق السودان من البجا وغيرهم المجلس الأعلى في تلك الحقوق التي يكفلها لهم الدستور وحقوق المواطنة وسيادة الدولة على أراضيها.
وعلى ضوء ما أسلفنا، سنجد أن فشل لجنة قضية الشرق التي كونها “مجلس السيادة” للتعامل مع قضايا معقدة في الذهنية العنصرية لأنصار المجلس الأعلى لنظارات البجا سيكون فشلاً متوقعاً وذريعاً لا محالة.