بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم– كل القوى والأحزاب الوطنية العراقية التي قررت مقاطعة الانتخابات فعلت ذلك تحت وطأة اعتقاد يقول إن الانتخابات ستكون مزورة كسابقاتها، وإن هيمنة المال السياسي والسلاح سوف تتحكم بالنتائج.
في ظروف ما قبل العاشر من أكتوبر الماضي كانت هذه هي الصورة. ولو كنتُ واحدا ممن يمكنهم اتخاذ قرار، لقررتُ المقاطعة أيضا، إذ مَنْ يمكنه الثقة بعمل أي شيء مع أشخاص يبيحون لأنفسهم السرقة والقتل ثم يدعون أنهم يؤمنون بالعباس والحسين؟
ولكن النتائج الفعلية أظهرت أن هذا التقدير كان خطأ. الشعب العراقي الذي قاطع الانتخابات كان هو نفسه على خطأ أيضا. والملايين التي خرجت للاحتجاجات على مدار عام ونيف للمطالبة بتغيير النظام ثم قاطعت الانتخابات على سبيل اليأس كانت أيضا على خطأ. إذ لا المال السياسي ولا سلاح الميليشيات ولا كل خبرات التزوير السابقة شفعت لجماعات الإطار التنسيقي بأن تحقق الفوز الذي كانت تنشده.
باختصار، أظهرت النتائج أن الانتخابات كانت أكثر نزاهة من سابقاتها، وأن السلاح والمال السياسي لم يتركا فيها أثرا كبيرا، وأن “الفلوس التي صرفها الميليشياويون راحت بلاش”.
ولكن، رُبّ ضارة نافعة. فحيث أن جماعات المال السياسي والميليشيات الموالية لإيران تطالب بإعادة الانتخابات لأنها “مزورة”، فقد يكون من الأنسب لكل الذين قاطعوا الانتخابات أن يستدركوا الخطأ، وأن يشدوا على أيدي عصابات الولي الفقيه لتشجيعها على طلب إعادة الانتخابات بالفعل.
تخيّل ماذا يمكن أن يحصل؟
عشرون مليون مناهض لسلطة عصابات الولي الفقيه ممن غلبهم اليأس يمكنهم أن يقلبوا عاليها سافلها بالفعل إذا عادوا ليدخلوا حلبة الانتخابات.
تلك العصابات لن تحصل مجددا على أكثر مما حصلت عليه، أو أقل بالأحرى. فهؤلاء مثل العنزة التي أراد أهلها ذبحها، فلما لم يجدوا سكينا حفرت هي الأرض، لتظهر السكين فذبحوها بها، حتى ذهبت بما فعلت مثلا “كالباحث عن حتفه بظلفه”.
هذه العصابات تمارس لعبة تورية الآن، وذلك بقصد الضغط على مقتدى الصدر لكي تشاركه الكعكة. وهي لا تجهل احتقار العراقيين لها ولولاءاتها. كما أنها لا تجهل حقيقة أنها منظمات فساد وجريمة وأعمال نهب. وبالتالي فإنها ليست موهومة بنفسها إلى ذلك الحد الذي يجعلها تعتقد بالفعل أنها تستطيع الفوز.
كل الملايين التي كانت تخرج في تظاهرات احتجاجا على هيمنة منظمات الجريمة يمكن أن تعود إلى ساحات الاحتجاج للمطالبة بإعادة الانتخابات تأييدا لمطالب منظمات الجريمة! بعض الخبث، مع من يمثل الخبث طبيعتهم الوحيدة، قد ينفع.
وأكاد أشعر أن تلك المنظمات من الجبن بحيث لو حصل ذلك فإنهم سوف يتراجعون عن الدعوة، ويضع كل واحد منهم ذيل دشداشته في فمه ويهرب، حتى لكأن واحدهم لم يقدم طلبا رسميا “بالإثباتات والأدلة” إلى المحكمة الاتحادية داعيا إلى إلغاء الانتخابات.
وحيث أن الصدر يريد تشكيل حكومة “أغلبية وطنية”، فإن من الحصافة السياسية مساندته وتقديم الوعد له، بأن هذا هو ما سوف يكون إذا أعيدت الانتخابات، وذلك لتعميق الشرخ بينه وبين أقرانه السابقين.
لا شيء يمنع من “تأصيل” التوجه الذي صار يتخذه الصدر، حتى ولو كان مجرد ثمرة بضعة أسابيع من الألمعية الاستقلالية التي تريد أن تنأى بالعراق عن إيران. هذا النبت الطارئ يمكن أن يتعزز. بل من الخير أن يتعزز، وأن يُمنح الصدر الفرصة لكي يَثبت عليه، بدلا من العودة إلى الارتماء في أحضان جماعات الولي الفقيه لكي يتقاسم معهم الكعكة.
العقلية “الثورية” التي تريد “كل شيء أو لا شيء” جديرة بأن يتم نبذها. هي عقلية مفيدة إذا كان المرء يمتلك القوة لكي يفرضها، ولكنها سرعان ما تكون شعارا أجوف من دون تلك القوة.
الافتراضات التي قوطعت الانتخابات على أساسها ثبت أنها خطأ. وقبول الدعوة لإعادة الانتخابات سيكون بمثابة فرصة لاستدراك ذلك الخطأ.
يستطيع المرء أن يتفهم الشكوك بمقتدى الصدر. إنها جديرة بالاعتبار فعلا. ولكن الذين صبروا ثمانية عشر عاما على جرائم مكتملة الأركان يمكنهم أن يصبروا على نصفها.
ولو أن قيادة الصدر للحكومة المقبلة أحيطت بما يكفي لتثبيت أقدام الرجل على أرض ما يقول، فإن ذلك يمكن أن يوفر مخرجا، ولو تدريجيا، من المحنة.
الرجل شغوف بالزعامة. ويريد أن يخلع عليها طابعا وطنيا. وهذا مظهر جدير بالاستفادة منه. ولعله يفعل ذلك من باب المناكفة مع نوري المالكي، إلا أن أحدا لا يستطيع نكران وجود شروخ بين جماعات الإسلام السياسي الشيعي. بيوتات هذا الإسلام “الذي يؤمن بالعباس والحسين” تتنازع في ما بينها من سالف الأيام، ويريد كل منها أن يستولي على “الخُمس”. وكلهم “سادة”، ولله الحمد الذي لا يُحمد على مكروه سواه. وعمائمهم سود، أعوذ برب الفلق.
المتظاهرون الذين كانوا يملأون ساحات بغداد سمحوا بأن يتشارك الصدريون معهم، بينما نصب الصدر خيمة احتجاج خاصة به، لكي يوحي بأنه هو الذي يقود الانتفاضة. لا تعرف كيف. ولكن ذلك كان هو المقصد.
والكل رأى أنه عندما تم لفظ ميليشياته من حشود المتظاهرين، أخرجت هذه الميليشيات السكاكين والهراوات ضدهم.
هذه وقائع لا تُنسى. ولكن تقف خلفها دلالة وحيدة، هي أن الرجل يريد أن يصبح زعيما. ولو أن انتخابات يعود ليشارك فيها المقاطعون أسفرت عن توازنات جديدة، فإن منح الصدر الزعامة يمكن أن يوفر مخرجا، إذا ما تم تحصينها بشروط مكافحة الفساد والاستقلال الوطني وإقامة دولة قانون.
“نص مصيبة” خير من مصيبة كاملة.
الذين يقولون إن “السياسة هي فن الممكن” إنما كانوا يقصدون البحث عن نصف الممكن لعلهم يتمكنون من استكماله.
مقاطعة الانتخابات قالت إن التغيير غير ممكن. ولكن الانقسام الراهن بين الذين اقتسموا الكعكة على مدى السنوات الماضية أظهر أن نصف الممكن ممكن.