بقلم: بول كروجمان – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – استثمرت أميركا على مدار قرون أموال دافعي الضرائب من أجل مستقبلها. وأقامت الأموال العامة بنية تحتية مادية، من قنوات المياه إلى أنظمة الطرق السريعة بين الولايات. واستثمرنا في رأس المال البشري أيضاً. فقد ظهر التعليم العام للجميع في الولايات المتحدة مبكراً، وابتكرت أميركا في الأساس التعليم الثانوي العام الحديث.
وهذا الإنفاق العام وضع أسساً للرخاء وساعد في جعلنا قوة اقتصادية عظمى. لكن مع صعود اليمين الحديث، تنكرت أميركا لهذا التاريخ. فقد أصبح حل كل مشكلة يتمثل في تقليص الضرائب الذي يعني إعطاء الأثرياء أموالاً على أمل تسربها إلى الطبقات الأقل ثراء.
وأصبح «أسبوع البنية التحتية» مزحة في ظل إدارة دونالد ترامب، وهذا يرجع جزئياً إلى أن مقترحات الإدارة السابقة كانت تتعلق برأسمالية المحسوبية أكثر مما تتعلق بالاستثمار. ويرجع ذلك جزئياً أيضاً إلى أن ترامب لم يبد قط عزيمة على تخطي المحافظين الذين عارضوا أي عمليات إنفاق جديدة كبيرة.
أما الآن، يحاول جو بايدن إحياء تقليد الإنفاق العام من أجل المستقبل. وتشريع إعادة البناء بشكل أفضل الذي أقره مجلس النواب في الأيام القليلة الماضية ليس خطة استثمار صرفة. إنه يحتوي على إنفاق محوري على الرعاية الصحية، مما يعتبر مساعدة للأميركيين في المدى القريب وليس في المستقبل. لكن نحو ثلثي الإنفاق المقترح يمثل حقاً استثماراً، بمعنى أنه يجب أن يكون له عائد كبير في المستقبل.
وإذا جمعنا بين تشريع إعادة البناء بشكل أفضل إلى جانب مشروع قانون البنية التحتية الذي أُقر بالفعل، يرى المرء قائمة أولويات ثلاثة أرباعها مخصصة للإنفاق الاستثماري. وأنا أنظر إلى برنامج بايدن حتى الآن بالطريقة التالية. الإنفاق الجديد الإجمالي سيبلغ 2.3 تريليون دولار على مدار عقد.
وهذا الإجمالي يتضمن ما بين 500 مليار دولار و600 مليار دولار من الإنفاق على كل واحدة من أمور ثلاثة وهي البنية التحتية التقليدية، وإعادة هيكل الاقتصاد لمعالجة تغير المناخ، والأطفال، وهذا البند الأخير يتألف في الأساس من رعاية الأطفال قبل رياض الأطفال ويتضمن أيضاً رصيداً ضريبياً سيقلص كثيراً فقر الأطفال.
وهناك أسباب كثيرة تدعو للاعتقاد بأنه سيكون هناك عائد اجتماعي مرتفع لكل الأنماط الثلاثة من الإنفاق. فقد جعل تعطل شبكات الإمداد الجميع يتذكرون أن البنية التحتية المادية التقليدية مازالت شديدة الأهمية.
فمازلنا نعيش في عالم مادي وتوصيل الأشياء إلى المكان الذي يتعين ذهابها إليه يستلزم استثماراً عاماً وخاصاً أيضاً. وفيما يتعلق باستثمارات المناخ، يتزايد وضوح الضرر الناجم عن ارتفاع حرارة الكوكب. فنوبات الجفاف والحرائق وتطرف المناخ ليس إلا مقدمة لمزيد من الكوارث القادمة. واستثمارات إعادة البناء بشكل أفضل لن تقضي على الخطر لكنها ستخفف حدة التغير المناخي وتحمينا جزئياً من بعض عواقبه وتجعل من الأسهل على الولايات المتحدة أن تتزعم العالم في المضي نحو حل أكثر شمولاً.
ومن ثم، هذا مال أُحسن إنفاقه. وأخيراً هناك أدلة وافرة تشير إلى أن مساعدة الأسر التي لديها أطفال يمثل استثماراً عالي العائد في مستقبل البلاد، لأن الأطفال الذين لديهم موارد ملائمة أصبحوا أكثر ثراء وإنتاجية مع نضجهم. فما غير المستحب في قائمة الأولويات هذه؟ إنها ليست تضخمية. ولا تصدقني في هذا بل انصت إلى وكالات التصنيف الائتماني التي تصدق على كلامي.
والإنفاق الذي تمت الموافقة عليه وذاك المقترح منه سيكون صغيراً إلى حد كبير كنسبة من الإنتاج المحلي الإجمالي الذي توقع مكتب الميزانية في الكونجرس أن يبلغ 288 تريليون دولار على مدار العقد التالي. وهذا الانفاق سيجري تغطيته إلى حد كبير بالضرائب الجديدة ولذا سيكون تأثيره التضخمي ضعيفاً للغاية.
صحيح أن هناك أسئلة بشأن دفع الكلفة لكن، فيما يتعلق بفاتورة البنية التحتية الأساسية، سيجري تغطية الكلفة في إعادة البناء بشكل أفضل بدرجة أو أخرى مما يعني أن الإنفاق سيزيد على الأرجح الدين الاتحادي قليلاً على مدار السنوات القليلة المقبلة. وهذه الزيادة في الدين ستكون صغيرة مقارنة مع الإنتاج المحلي الإجمالي، ومع الأخذ في الاعتبار معدلات الفائدة المنخفضة فإنها لن تضيف شيئاً تقريباً لكلفة خدمة الدين. وعلى المدى الطويل، قد يكفي عائد الاستثمارات العامة لتقليص العجز في الموازنة. لكن «الجمهوريين» يشجبون قائمة أولويات بايدن باعتبارها اشتراكية.
لكننا إذا قسنا الأمور بمقاييسهم، سنجد أن أميركا أدارها اشتراكيون معظم تاريخها. فهناك ديويت كلينتون حاكم نيويورك الذي أقام قناة في المدينة، و«هوراس مان»، الذي قاد حركة المدارس العامة من أجل تعليم أساسي للجميع بعد ذلك بعقدين. وناهيكم عن دوايت ايزنهاور الذي أشرف على استثمار حكومي عملاق ومعدل ضرائب مرتفع للغاية بلغت أعلى نسبة فيه 91%.
ولاشك أن خطة بايدن ستقلص التفاوتات الاقتصادية لأن توسيع نطاق الإعانات سيحدث فارقاً للأسر الأقل يسراً، ولأن تعديل الضرائب فيها سيكون تصاعدياً بشدة. والسياسة العامة التي تقلص عدم المساواة مثل الاستثمارات العامة تتخذ موضعاً راسخاً في تقاليدنا القومية. لقد ابتكرت أميركا الضريبة التصاعدية كما أشارت إلى ذلك الاقتصادية «كلاوديا جولدين». وحركة المدارس العليا «ضاربة بجذورها في المساواة». ولذا لا تصدقوا السياسيين الذين يحاولون تصوير قائمة أولويات استثمارات بايدن باعتبارها غير مسؤولة ومتطرفة. إنها مسؤولة للغاية ومحاولة لاستعادة فكرة كل الأميركيين التي مفادها أنه يجب على الحكومة المساعدة في صنع مستقبل أفضل.