بقلم: عبد الرؤوف الريدي – المصري اليوم
الشرق اليوم – مات كولن باول منذ عدة أسابيع، ولاحظت أنه لم يكن هناك اهتمام إعلامي به.. رغم أن باول كان رئيس الأركان أثناء حرب تحرير الكويت عام 1991.. وكان وزير الخارجية أثناء الحرب الكارثية على العراق عام 2003، وكولن باول ربما كان أحد اثنين في التاريخ الأمريكي شغلا منصب رئيس الأركان ثم منصب وزير الخارجية.
جاء أبوه مهاجرًا من جامايكا بالبحر الكاريبي ليستقر في أحياء نيويورك الفقيرة، غالبية سكانها أمريكيون من أصل إفريقي، ومن بينها حىّ هارلم الشهير.
لم يكن في مقدوره أن يدخل جامعة من الجامعات المتميزة في أمريكا التي تعرف بـ «Ivy League» فدخل إلى «State College» جامعة حكومية في نيويورك، وبالتالي عرف طريقه إلى الالتحاق بالجيش الأمريكي «سلاح المشاة» ليس من خلال التخرج في الكلية الحربية الشهيرة West Point، بل من خلال الالتحاق بنظام الضباط الاحتياط في الجامعة الحكومية بمنطقة نيويورك التي دخلها ليدرس الجيولوجيا.. وعندما تخرج ضابطا في سلاح المشاة الأمريكي ذهب في أوائل الستينيات إلى الحرب في فيتنام، فأبلى فيها بلاءً حسنا، فحصل على فترة تدريب بالبيت الأبيض، كانت هي الفاتحة في رحلة صعوده.
وعندما ذهبت سفيرا بواشنطن وبدأت زيارات التعارف التي كان من بينها وزير الدفاع واينبرجر، كان «العميد» كولن باول هو الذي يسجل ما دار في اللقاء بيننا، وكان مرتديا زيه المدني باعتباره يشغل وظيفة «مدنية» حتى وإن كانت في وزارة الدفاع.
بدأت رحلة صعود كولن باول عندما وقعت أحداث فضيحة إيران كونترا عام 1986 وخروج مجموعة ماكفارلين بويندكستر من مجلس الأمن القومي.. ليعهد الرئيس ريجان إلى السيناتور السابق هوارد بيكر بأن يتولى منصب رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض.. فيعهد بيكر إلى كولن باول بمنصب مستشار الأمن القومي، وكانت تلك نقلة مهمة في مسيرته في واشنطن.
تتالت بعد ذلك الخطوات سريعا بنجاح الرئيس جورج بوش «الأب» رئيسا للولايات المتحدة، الذي كان يعرف باول منذ كان مستشارا للأمن القومي، ليختار باول رئيسا للأركان.. ثم يأتي الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990 وتأتي حرب تحرير الكويت.. ويتألق فيها رئيس الأركان كولن باول.. ليصبح في عيون الأمريكيين في منزلة بطل الحرب war hero، وليكتب سيرته الذاتية «My American Journey»، لينجح هذا الكتاب نجاحا باهرا ويصبح من أعلى مبيعات الكتب آنذاك.. وعندما جلست لأكتب سيرتي الذاتية بعد خدمتي في واشنطن كان أمامي نموذجان: نموذج كتاب جيمس بيكر وزير الخارجية الذي كتب كتابا تقليديا، ونموذج كولن باول الذي خصص جزءا كبيرا منه لمرحلة النشأة والجذور.. وقد اخترت النموذج الثاني أي نموذج باول.
بنهاية خدمته العسكرية، أصبح باول نجما ساطعا في المجتمع، وحاول الحزب الجمهوري أن يستقطبه ليرشحه للرئاسة، ولكنه رفض، ولم يكن هناك من سبب لرفضه سوى أن أسرته، وخاصة زوجته «ألما»، لم تكن تحب أن تخوض هذه التجربة لما كان ممكنًا أن يتعرض له في معتركها الانتخابي.. ولكن مع ذلك ظل باول ملء السمع والبصر في الحياة الأمريكية العامة، وظلت مقولات باول تشكل جانبا مهما من الفكر الاستراتيجي الأمريكي فيما يسمى بعقيدة باول «Powell’s Doctrine»، ومن أهم هذه المقولات مقولته بأنه «لا يجب اللجوء إلى الحرب إلا كخيار أخير» Last Resort.
ثم جاء جورج بوش الصغير ونائبه تشيني، الذي أصبح هو القوة التي تحرك سياسات بوش الصغير الخارجية، ويعرض بوش على باول منصب وزير الخارجية… ويقبل باول «المنصب»… ثم لا يلبث أن تدور عجلة الأحداث دورة أخرى… فتأتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر… وتعيش أمريكا لحظة تسودها مشاعر الانتقام… كانت الرغبة في الانتقام لما جرى تسبق أي حسابات أخرى.. وكان تشيني ومجموعته المحيطة به رامسفيلد وزير الدفاع، وولفنسون وكيل الدفاع والعقل المدبر، وكانت هذه المجموعة مهووسة بغزو العراق وإسقاط صدام حسين والسيطرة على العراق وثروته البترولية.. تلك كانت سياسة الرئيس ونائبه تشيني وبطانته، التي بدأت عملية تزوير وتلفيق للتهم وخلق صورة ذهنية لصدام بأن لديه أسلحة دمار شامل… رغم أن المفتشين لم يكونوا قد وجدوا أي دليل على ذلك… ولكنها العجلة الأمريكية وتأثيرها الإعلامي الهائل.
وكان باول تساوره الشكوك فيما يُدفع به إليه كبيانات… وكان من هذه البيانات ذلك البيان الذي أُعد ليلقيه بمجلس الأمن في الخامس من فبراير عام 2003.. ليدلل فيه على أن صدام يمتلك أسلحة دمار شامل… ألقى باول للأسف هذا البيان المفبرك الذي كان من بينه ما قاله عندما أمسك بأنبوبة صغيرة ليقول إن الأنبوبة هذه المادة الكيماوية القاتلة من بين أسلحة الدمار الشامل.
كنت في نيويورك في هذا اليوم، ورأيت باول وهو يلقي هذا البيان.. وسألت نفسي: أين باول الذي ينادى بأن الحرب لا تكون إلا الخيار الأخير؟.. هل تخلت عنه أفكاره ومعتقداته، أو تخلى هو عن هذه الأفكار التي طالما نادى بها؟!… كنت مقتنعا شخصيا بأن هناك عملية تلفيق كبرى تجري لإعداد هذه البيانات، وأثق بأنه كان لابد أنه تساوره الشكوك في صحتها.
أعتقد أن هذه ربما كانت من أصعب اللحظات التي قابلها باول في حياته السياسية… وقد قال فيما بعد إن بيانه في مجلس الأمن كان بقعة قائمة على صفحته البيضاء.
منذ تلك اللحظة، فقد باول هذا البريق الذي تربى عليه كجندي على إطاعة الأوامر… ولكنه في الواقع لم يكن جنديا في هذه اللحظة… لقد كان وزيرا للخارجية..!!.
لقد رأيت أحد العناوين في الصحف هنا يشير إلى أن باول كان «عراب» حرب العراق.. وشخصيًا، أعتقد أن عراب حرب العراق هو تشيني وليس باول.. الذي استغل شعور الرأى العام الأمريكي بالرغبة في الانتقام، ليمرر ما كان يتحرق إليه شوقا وهو غزو العراق وإسقاط صدام حسين… وجاء هذا البيان الذي ألقاه باول والذي كان مبنيا على التلفيق والأكاذيب، وهو ما تندّم عليه بعد ذلك.
في هذه الفترة، جاء القرار الأمريكي بغزو أفغانستان قبل غزو العراق، الذي لحق بها بعد عام أو عام ونصف، في أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وأن لديه أسلحة كيميائية وبيولوجية.. يومها قلت لمن أعرفهم من الأمريكيين: أرجوكم لا تذهبوا إلى العراق، ستندمون لو فعلتم.. وهو نفس ما قلته محذرًا من غزو أفغانستان، ولكن هذه المجموعة التي أحاطت بـ«بوش الصغير» كانت مصممة على إدخال أمريكا في حرب مع كل من أفغانستان والعراق.. واليوم، ننظر إلى النتائج الكارثية التي سببها غزو هذه البلدين… تسليم أفغانستان لطالبان… أما العراق فهناك إيران صاحبة النفوذ الأكبر اليوم في العراق.
وأعود إلى كولن باول الذي لم أره منذ غادرت منصبي في واشنطن في يوليو 1992… وأفكر في هذا الجانب الدرامي في حياة باول.. بقدر ما كانت رحلة صعود باول رحلة أسطورية يجسدها كتابه «رحلتي الأمريكية».. حتى تنتهي بتلك اللحظة المأساوية التي سيظل الناس يذكرونه بها… وهي اللحظة التي ألقى فيها بيانه الكاذب في مجلس الأمن يوم 5 فبراير 2003 وزال القناع أو زالت هذه الهالة التي أحاطت بباول في رحلة صعوده لتنتهي بهذه الصورة.
هل كان يستطيع باول أن يستقيل لأنه كان متشككا فيما قُدم إليه من بيانات؟ هل يعفيه أنه طلب أن يجلس خلفه جورج تينيت رئيس وكالة المخابرات الأمريكية ليوحي بأن تينيت هو المسؤول عن صحة البيانات التي جاءت على لسان باول..؟..
لقد عرفت باول في أثناء رحلة صعوده الأسطوري، وما كنت أحب أن أراه وهو يواجه هذه اللحظة التي قادته إلى رحلة الندم.. ولكنها الحياة، التي قد لا تختلف كثيرا عن الدراما التي نقرأ فيها عن شخصية من شخصيات شكسبير، مثل هاملت أو من شخصيات الرائع نجيب محفوظ… الصعود ثم الندم.