بقلم: هشام ملحم – موقع الحرة
الشرق اليوم- قبل أسبوع من استئناف المفاوضات النووية في فيينا بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، بعد توقفها في شهر يونيو الماضي، سعت الولايات المتحدة إلى طمأنة حلفائها في الشرق الأوسط، وتحديدا دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل، أنها لن تتخلى عن التزاماتها الأمنية في المنطقة، “ولن تذهب إلى أي مكان” آخر، وفقا لما قاله منسق مجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك، خلال مشاركته في “حوار المنامة 2021” في البحرين. وشدد ماكغورك على أنه إذا امتحنت طهران جدية الالتزامات الأميركية “فإننا سنحمي شعبنا، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية إذا دعت الضرورة. وإذا استخدمنا القوة العسكرية، فإننا مستعدون لأن نفعل ذلك بشكل حاسم”.
تأكيدات ماكغورك جاءت بعد مواقف مماثلة من وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، الذي ألقى في المؤتمر خطابا رئيسيا، السبت، أوضح فيه أن واشنطن لن تتخلى عن مصالحها في المنطقة، مؤكدا ” نحن ملتزمون بالدفاع عن حلفائنا ومصالحنا، وسنعمل مع الحلفاء والشركاء لحماية الممرات المائية والدفاع عن أمن المنطقة”. ورأى أوستن، الذي خدم في السابق كقائد للقيادة المركزية التي تشرف على القوات الأميركية في الشرق الأوسط أن تهديدات إيران ووكلائها في المنطقة واسعة النطاق، وهذا يتطلب التنسيق مع الحلفاء ” للدفاع المشترك عن أمن المنطقة، ويجب على إيران أن تعلم أنها لا تستطيع أن تقوض علاقاتنا في المنطقة”.
ولكن كما يتبين من مواقف المسؤولين الاقليميين وغيرهم من المشاركين الأكاديميين في المؤتمر، هذه التأكيدات الأميركية العلنية لم تنجح في إقناع المسؤولين العرب والإسرائيليين بأن مخاوفهم وقلقهم من تقلص الاهتمام الأميركي بالمنطقة والرغبة المتزايدة في واشنطن في أوساط الحزبين الديموقراطي والجمهوري بتخفيض ما يسمى “البروفيل الاستراتيجي“ الأميركي في المنطقة هي مخاوف ليست في محلها.
حوار المنامة جاء بعد أكثر من شهرين من الانسحاب الأميركي الفوضوي والدموي من أفغانستان، والذي أضر بسمعة واشنطن في المنطقة، وعمق من الشكوك بصدقية التزاماتها الأمنية، وبعد أشهر من إعلان الرئيس بايدن إنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق مع نهاية السنة الحالية، وبعد بضعة أسابيع من الهجوم بالطائرات المسيرة الذي شنته إيران ضد قاعدة التنف الأميركية في جنوب سوريا، والذي لم ترد عليه الولايات المتحدة، على الأقل بشكل علني.
وحول ما قيل عن غياب الرد الأميركي على الهجوم الذي استهدف قاعدة التنف، قال ماكغورك: “هذه مواضيع لا تستطيع دائما التحدث عنها علنا، وليس كل رد سيكون على شبكة سي أن أن عندما يتم تفجير شيء ما. ولهذا فان الادعاء بأننا لم نفعل أي شيء ليس دقيقا”.
هذه الرغبة الأميركية بتخفيض الالتزامات العسكرية في المنطقة الممتدة من جنوب آسيا إلى منطقة المغرب العربي مرورا بمنطقة الخليج والشرق الأدنى بدأت خلال إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، الذي أراد اعتماد سياسة “التحول إلى آسيا”، وهي عبارة تعني التركيز الدبلوماسي والاستراتيجي والاقتصادي على مواجهة التحدي الصيني للولايات المتحدة وحلفائها على مختلف هذه الجبهات. هذه السياسة واصلها، وإن بشكل مضطرب الرئيس السابق، دونالد ترامب، كما اعتمدها الرئيس، جو بايدن، الذي سعى خلال قمة الدول الصناعية السبع في شهر يونيو الماضي، إلى تعبئة هذه الدول في جهود جماعية دولية لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد في العالم.
الانسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة يحظى بتأييد أكثرية الأميركيين الذين راقبوا بقلق واستياء بالغين الكلفة البشرية والمالية الضخمة لأطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وهما غير حيويتين لمستقبل الولايات المتحدة.
الأميركيون رحبوا بالانسحاب من أفغانستان، وإن أعربوا عن استيائهم للفوضى وأعمال العنف التي أحاطت بالانسحاب، كما رحبوا بقرار الرئيس السابق ترامب سحب القوات الأميركية الخاصة من الصومال.
على الصعيد السياسي، وبعد مرور و أكثر من 10 أشهر على استلام بايدن لمهامه الدستورية، ركز الرئيس، ولا يزال، على تطبيق برامجه الداخلية بدءا من مكافحة جائحة كورونا، وإقرار خططه الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الطموحة والتي تواجه معارضة قوية وشاملة من الحزب الجمهوري. وعلى الصعيد الخارجي صد التحدي الصيني كان ولا يزال وسيبقى الهم إن لم نقل الهاجس الأساسي الخارجي لإدارة الرئيس بايدن، وإن كان احتواء عدوانية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في أوروبا، (ضد أوكرانيا وجمهوريات بحر البلطيق)، والتصدي لانتهاكات روسيا الإلكترونية للأجهزة والشركات الأميركية، يحظى أيضا باهتمام كبير من الرئيس بايدن وفريقه.
في الشرق الأوسط، كان إحياء الاتفاق النووي مع إيران ولا يزال- على الرغم من التصلب الإيراني المستمر- أبرز أولويات إدارة بايدن في المنطقة. ولا يزال بايدن وكبار مساعديه يؤكدون تمسكهم بالمفاوضات كأفضل وسيلة لمعالجة طموحات إيران النووية.
أتسمت علاقات إدارة بايدن الأولية بدول خليجية مثل السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بالفتور لأكثر من سبب، من أبرزها الحرب المدمرة في اليمن، ما دفع بايدن لتجميد بعض صفقات الأسلحة لهذه الدول، و”إعادة” النظر بالعلاقة مع الرياض، قبل أن يتراجع عن هذه السياسية، وخاصة بعد اضطرار واشنطن للاعتماد على مساعدة دول الخليج في عملية إجلاء الرعايا الأميركيين والأجانب من أفغانستان. لاحقا استأنفت واشنطن صفقات الأسلحة، بما في ذلك صفقة الطائرات المتطورة من طراز إف – 35 لدولة الإمارات وصفقة صواريخ وقطع غيار للسعودية على الرغم من المعارضة المتزايدة في الكونغرس لهذه الصفقة الأخيرة من مشرعين من الحزبين بسبب حرب اليمن.
عينت إدارة بايدن عددا من المبعوثين الديبلوماسيين لإيران واليمن والقرن الأفريقي، ولكن جهودها في هذه المجالات لم تحقق أي نتائج حتى الآن، كما أوضح البيت الأبيض وبأكثر من طريقة مباشرة وضمنية، أن الرئيس بايدن لن يستثمر الكثير من وقته وجهوده لمعالجة قضايا كان جميع أسلافه- باستثناء ترامب- يهتمون بها مثل النزاع العربي-الإسرائيلي أو في حروب سوريا وليبيا.
وفي الوقت ذاته، شجعت إدارة الرئيس بايدن، كما فعل وزير الدفاع أوستن والمنسق ماكغورك في المنامة، دول الخليج على اعتماد الدبلوماسية لحل خلافاتها مع إيران، في ضوء الاتصالات السعودية- الإيرانية، ورغبة دولة الإمارات في إحياء الدبلوماسية مع طهران. تركيز واشنطن على التنسيق العسكري والمناورات العسكرية المشتركة مع دول المنطقة كما رأينا مؤخرا في المناورات التي شاركت فيها إسرائيل ودولة الإمارات والبحرين والقوات الأميركية، يبين أنها ستعتمد أكثر على حلفائها في المنطقة، وهي تواصل تخفيض بروفيلها العسكري في الخليج وشرق المتوسط والقرن الأفريقي. ومن هنا جاء تركيز وزير الدفاع أوستن في خطابه في المنامة على هذا التنسيق والتدريب العسكري لجيوش الحلفاء في المنطقة.
ويمكن وضع عملية تطبيع العلاقات بين دول خليجية مثل دولة الإمارات والبحرين مع إسرائيل من خلال “اتفاق إبراهيم” في سياق محاولات بعض دول المنطقة تعزيز علاقاتها الاستخباراتية والأمنية والسياسية والاقتصادية للتخفيف من الآثار السلبية للانسحاب التدريجي الأميركي من المنطقة، ولتعزيز التعاون الإقليمي الاستخباراتي والأمني في مواجهة إيران.
مضمون خطب وتصريحات الوزير أوستن والمنسق ماكغورك في المنامة بقيت ضمن السياسة العريضة التي اعتمدها بايدن، أي مواصلة المساعي السلمية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، واحتواء أو إدارة النزاعات الأخرى في المنطقة، وتوسيع رقعة تحرك حلفائها في المنطقة لخدمة مصالحهم، كما يتبين من عدم معارضة واشنطن الفعلية لجهود دول حليفة مثل دولة الإمارات لإعادة النظام السوري إلى “الحظيرة” العربية على الرغم من حربه الهمجية ضد شعبه. حتى المواجهة الدموية قبل أشهر بين إسرائيل وحركة حماس في غزة لم تؤثر على موقف إدارة بايدن الأولي بتجاهل هذا النزاع لأطول وقت ممكن. الوجود العسكري الأميركي المحدود في سوريا، هو للتصدي لتنظيم داعش وتدريب الحلفاء الأكراد، ولكن واشنطن جمدت منذ سنوات من مساعيها الدبلوماسية في سوريا، وسلّمت عمليا بهيمنة روسيا وإيران في سوريا.
ستواصل إدارة الرئيس بايدن العمل مع الحلفاء والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة لمعالجة أو إدارة نزاعات القرن الأفريقي وليبيا، ولكن لا توجد هناك أي مؤشرات بأن إدارة بايدن ستقوم بأي مبادرات دبلوماسية جدية تتطلب دورا مباشرا ودؤوبا من الرئيس بايدن لمحاولة إيجاد حلول لأي من أزمات المنطقة. عندما طالب الرئيس الأسبق، باراك أوباما، دول الخليج تحّمل المزيد من أعباء أمنها، لم يكن يتوقع قيام السعودية وحلفائها بتصعيد القتال في اليمن وتحويله إلى أسوأ كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين.
وقطعا لم يفكر الرئيس السابق، دونالد ترامب، بمضاعفات سحبه للقوات الأميركية من شمال سوريا للسماح للرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، باستباحة شمال سوريا، أو تدخل تركيا ودول عربية أخرى في النزاع الليبي. الحرب في سوريا أظهرت أن الدول الإقليمية مثل إيران وتركيا وإسرائيل، وروسيا من خارج المنطقة، لن تتردد في اتخاذ أي إجراءات تخدم مصالحها حتى ولو حوّلت سوريا إلى أرض يباب. وضع أمن منطقة الشرق الأوسط في أيدي المسؤولين في الشرق الأوسط وحلفائهم مثل روسيا، لن يجلب بالضرورة السلام إلى المنطقة، وتطورات الماضي القريب، تبين أن المستقبل القريب لن يكون أفضل.