بقلم: د. ياسر عبد العزيز – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – ينطوي علم السياسة على تقنية بحثية فريدة ومميزة تُسمى «كاونتر – فاكتشوال» (Counter – Factual)، ويمكن ترجمتها حرفياً على أنها «عكس الواقع» أو «معارضة الواقع»، لكن تفسيرها الاصطلاحي يشير إلى محاولة قراءة بعض الوقائع التاريخية قراءة مضادة، بحيث يتم افتراض وقوع أحداث معينة، أو تغييب حقيقة ما أثّرت في مسار التاريخ، بغرض تعيين مدى قدرتها على صياغة التطورات التاريخية، وقياس أثر وجودها بقدر من الدقة.
وقد اختصر بعض الباحثين آلية استخدام تلك التقنية في صيغة «ماذا لو؟» (What If?)، وضربوا بعض الأمثلة على ذلك؛ مثل: ماذا لو انتصرت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية؟ أو ماذا لو لم يصدر وعد بلفور؟ أو ماذا لو اندلعت الحرب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إبان أزمة خليج الخنازير؟
وتقوم الفكرة ببساطة على أن طرح السؤال مثلاً عن إمكانية انتصار ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وما يتلوه ذلك من بناء تاريخي مفترض لما سيكون عليه حال العالم تحت هيمنة ألمانيا النازية في منتصف القرن الفائت، من شأنه أن يوضح الأسباب التي دعت «الحلفاء» إلى التصدي لمشروع هتلر، وأن يشرح التداعيات المترتبة على الإخفاق في مقاومة النازية والفاشية.
سيمكننا بكل تأكيد أن نستعير تلك التقنية لكي نطبقها على المجال الإعلامي، وستكون هناك أسئلة كثيرة يمكن طرحها على منوال «ماذا لو؟» ذاته، وسيكون الهدف أيضاً هو محاولة قراءة بعض الوقائع الإعلامية قراءة مضادة، بافتراض وجود شيء كان غائباً، أو تغييب شيء كان موجوداً، من أجل تعيين أثره بعناية.
سأجازف وأستخدم تلك التقنية إعلامياً، وأطرح السؤال التالي: «ماذا لو كانت وسائل (التواصل الاجتماعي) موجودة وفعالة منذ مطلع القرن الماضي؟».
سيعني هذا بكل تأكيد أن ما صنعته تلك الوسائط في مجالات الاتصال كافة خلال القرن الحالي سينطبق أيضاً على ما جرى خلال القرن السابق عليه. وسيشمل ذلك بطبيعة الحال مجال الاتصال السياسي، وهو المجال الذي يُعد أحد حقول علم الاتصال المعرفية، ويختص بدراسة بيئة الاتصال الذي يجري بين الفاعلين السياسيين أو بينهم وبين طبقات الجمهور المختلفة.
فإذا حاولنا أن نقارن بين بيئة الاتصال السياسي في القرن الحالي والقرن السابق عليه، لَوجدنا أن ثمة تغييرات عميقة حدثت في هذا الإطار، وعلى رأس تلك التغييرات أن آلية الاتصال السياسي الأولى لم تعد وكالة الأنباء أو الإذاعة، وإنما «السوشيال ميديا».
فعبر حسابات على «فيسبوك» أو «تويتر» يتحدث القادة والزعماء، وتُعلن التشكيلات الحكومية، وتُقر القوانين، وتجري المفاوضات، وتندلع المعارك السياسية، ويروج القادة السياسيون لأنفسهم في الانتخابات.
فإذا افترضنا أن تلك التغيرات كانت تحكم عالم الاتصال السياسي في القرن الماضي، فسيمكننا أن نسأل على سبيل المثال: «ماذا لو حظر (تويتر) انتقادات شارل ديغول للحكومة الفرنسية المتعاونة مع الاحتلال الألماني؟»، و«ماذا لو حجب (تويتر) دعوة الرئيس جمال عبد الناصر لمواطنيه للتصدّي للعدوان الثلاثي؟»، و«ماذا لو منع (تويتر) نيلسون مانديلا من انتقاد الحكم العنصري في جنوب أفريقيا؟»، و«ماذا لو صادر (تويتر) حق قادة الثورة الجزائرية في حضّ مواطنيهم على التصدي للاستعمار الفرنسي؟».
لو كانت البيئة الاتصالية الراهنة هي التي تحكم عالم القرن الماضي، لَبات الاتصال السياسي أسيراً لشروطها بكل تأكيد، وضمن تلك الشروط، أن «تويتر» وأمثاله يحملون أهم الرسائل السياسية، وأن بمقدور الشركات المُشغّلة لتلك الوسائط أن تحظر القادة والزعماء ورسائلهم، وأن ذلك كان من الممكن أن يسهم في تغيير مسار التاريخ، وأن هذا التغيير ربما كان سيخدم رؤى ومصالح نخبة محدودة من الشبان الذين يديرون تلك الوسائط.
لا أؤيد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ولا أوافق على كثير مما يفعله الرئيس النيجيري محمد بخاري، ولا أحب أن أرى ليبيا تحت حكم سيف الإسلام القذافي، ليُعيد تجربة والده الراحل بكل مراراتها، ومع ذلك فأنا أعارض بشدة حظر هؤلاء الزعماء أو حجب تغريداتهم على وسائط «التواصل الاجتماعي» بقرار منفرد من القائمين على تشغيل تلك الوسائط.
ليس من حق «تويتر» -أو أمثاله- أن ينصّب نفسه قيّماً على الخطاب السياسي للقادة والزعماء ومرشحي الانتخابات من ذوي الحظوظ المُعتبرة، فما يصدر عن هؤلاء ليس خطاباً اجتماعياً يمكن إخضاعه لقواعد الاستخدام وسياساته، ولكنه اتصال سياسي يمكن أن يصنع التاريخ والمصائر، وعلى ناقل الخطاب أن يلتزم بنقله، وأن يترك للجمهور والنخب المستهدفة به حرية التفاعل معه بالطريقة المناسبة.