بقلم: حسام ميرو – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – من جديد، أعادت أزمة اللاجئين العالقين على الحدود البيلاروسية البولندية طرح أسئلة استراتيجية كبرى حول الصراع الروسي الأوروبي، فعملية ضخ أعداد كبيرة من اللاجئين تجاه أوروبا، وتحديداً تجاه بولندا، لم تكن ممكنة من دون تنسيق بين مينسك وموسكو، وقد ترافقت مع أزمة اللاجئين مناورات جوية لقوات مشتركة روسية وبيلاروسية، وصفت إعلامياً بأنها «استعراض للقوة»، وقد دفع هذا السلوك عدداً من القادة الأوروبيين إلى إظهار خشيتهم من اندلاع حرب عسكرية، وقد جاء الرد الأعنف، والأكثر تعبيراً عن المخاوف الأوروبية، من قبل رئيس الأركان البريطاني الفريق أول سير نك كارتر؛ حيث اعتبر أن التطورات الأخيرة في شرق أوروبا قد تدفع إلى الحرب، وأنه من «الواجب الاستعداد لها، والتأكد من إمكانات الردع».
في شهر مايو/ أيار الماضي، قامت بيلاروسيا بإجبار طائرة مدنية على الهبوط، وقامت باعتقال ناشط من مواطنيها كان على متن الرحلة، وقد وجّه الاتحاد الأوروبي إدانة واسعة وشديدة اللهجة ضد هذا السلوك، كما أصدر الاتحاد عقوبات متتالية ضد مينسك، وطالب «حلف الناتو» بإجراء تحقيق دولي حول الحادثة، وقبل هذه الحادثة بنحو أربعة أشهر، اعتقلت السلطات الروسية المعارض البارز أليكسي نافالني وهو عائد من ألمانيا، بعد تلقيه العلاج لبضعة أشهر، إثر تسمّمه بغاز الأعصاب، ويبرز هذا السياق الحساسية الروسية تجاه التدخّل الغربي في الشأن السياسي المحلي، واستخدام ملف المعارضة السياسية للضغط على موسكو وحلفائها.
هناك اتجاه في التفكير الاستراتيجي الأوروبي يقول إن أوروبا باتت مهدّدة أكثر من أي وقت مضى بتهديدات مختلفة، وأن بعض مظاهر التحديّات العسكرية لأوروبا بدأت بالظهور نتيجة حالة الانكماش الأوروبي، وبالطبع فإن جزءاً مهمّاً من هذا الطرح موجه نحو ما تشكّله روسيا من تهديدات، لكن هذه التهديدات هي من طبيعة جديدة، وصفها جوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي والشؤون الأمنية بأنها «مواقف مختلطة تتطلّب الاستعانة بمجموعة واسعة من الأصول الدفاعية»، وقد قام بوريل بإعداد ورقة تحت عنوان «البوصلة الاستراتيجية»، بطلب من المجلس الأوربي، وهي تشتمل على أهم التحدّيات التي تواجه أوروبا، وكيفية مواجهتها، ومن ضمنها بالطبع مواجهة التهديدات الروسية.
هناك حربان عالميتان، في تاريخ القرن العشرين، عنوانهما الكبير الصراع الألماني السوفييتي، وفي الحقيقة فإن العنوان الرئيسي هو الصراع على أوروبا، وإذا كانت ألمانيا قد خرجت من الحرب العالمية الثانية بهزيمة شاملة، لكنها تمكّنت عبر عقود أن تعود بقوة إلى الساحة الاقتصادية الأوروبية والعالمية، وأن تحتل المرتبة الرابعة عالمياً في مؤشر الناتج القومي، بينما تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وتحاول روسيا منذ أكثر من عقد أن تعود لاعباً أوروبياً وعالمياً، وقد قامت بخطوات عديدة لإثبات قدراتها العسكرية وغير العسكرية، ومن أبرزها التدخل العسكري في أوكرانيا عام 2014.
خلال السنوات الأخيرة، قامت روسيا بالتدخل في عدد من العمليات الانتخابية، بما فيها انتخابات الاتحاد الأوروبي في مايو/ أيار 2019؛ حيث تشكّل التهديدات السيبرانية الروسية إحدى أبرز أدوات المواجهة بين روسيا والغرب؛ بل ربما الأداة الأكثر خطورة وفاعلية في زمن المعلوماتية؛ حيث إن عمليات تشغيل معظم البنى التحتية أصبح مؤتمتاً، وهو ما يزيد فعلياً من الحاجة إلى الاستثمار في آليات صدّ الهجمات السيبرانية.
تدرك أوروبا، أن إمكانات تغيير السياسات الروسية من الداخل يعد أمراً مستحيلاً في ضوء معطيات الواقع الروسي، لجهة عدم وجود معارضة قوية للرئيس فلاديمير بوتين، كما تدرك أن مشكلة روسيا الأساسية هي ضعف تواجدها في السوق العالمية، وأنها لا تزال تعتمد بشكل رئيسي في ميزانيتها على عائدات الطاقة ومبيعات السلاح، لكن في المقابل، فإن أوروبا تعتمد بشكل كبير ورئيسي على إمدادات الطاقة الروسية، وتحديداً الغاز، وهذا العامل المشترك بين الجانبين يجعل من التفاوض هو سمة العلاقة بين الطرفين، لكنه تفاوض، يعزّز فيه كل طرف من أهمية أوراقه بما يمتلكه من أدوات وطرق، من أجل الوصول إلى اتفاق أفضل.
الصراع الروسي الأوروبي صراع قديم متجدّد، لم يختفِ يوماً، ولئن كان الصراع العسكري قد اختفى بصيغته المباشرة، إلا أن العمل الدائم من أجل تعزيز الردع بقي مستمراً، كما أن كل طرف بقي متحفّزاً على الدوام لكسب نقاط، لكن ما هو جديد في الصراع أن أوروبا وجدت في التهديدات الروسية سبباً قوياً لتجديد أدواتها في مجالي الدفاع والأمن.