الرئيسية / مقالات رأي / أزمة بيلاروس – بولندا… فصل من سردية المواجهة التاريخية بين الغرب والشرق

أزمة بيلاروس – بولندا… فصل من سردية المواجهة التاريخية بين الغرب والشرق

بقلم: ماري ديجيفسكي – اندبندنت عربية

الشرق اليوم– هي في وقت واحد تفطر القلب ومقلقة، فأعداد طالبي اللجوء والمهاجرين المفترضين ممن يعيشون في العراء بالغابات اليبلاروسية على أمل العبور إلى بولندا، واحد من أكثر المشاهد غرابة على امتداد الأعوام الثلاثين التي تلت نهاية الحرب الباردة.

إنه لأمر محزن كثيراً بسبب اليأس الواضح الذي يشعر به الناس ممن استدرجوا إلى تصديق أن ثمة طريقاً آمناً أمامهم للوصول إلى حياة أفضل في الاتحاد الأوروبي، ثم تُركوا لمصيرهم ليتدبروا أمورهم بأنفسهم في العراء في عز الشتاء، بيد أنها مثيرة للقلق أيضاً لأنها قد تمخَّضت عن نوع من الظروف الاستفزازية التي يعد التكهن بنتائجها في غاية الصعوبة، والتي إذا لم ينزع فتيلها بسرعة، فقد تتفاقم لتتحول إلى صراع. وربما قامت سلطات بيلاروسية بإخلاء المخيمات الرئيسة، حيث تجمع الناس، إدراكاً منها، إلى حد ما، لإمكانية تطور الأحداث في هذا المنحى. وقالت وسائل إعلام رسمية إنهم أبعدوا إلى موقع بعيد عن الحدود.

صوّر سياسيون الأزمة خلال أسبوع أو أسبوعين من بدايتها على أنها إنسانية في المقام الأول، وهي كانت كذلك بطبيعة الحال، لكن بدا أن عرضها الأول بهذه الطريقة، كان يعكس أيضاً جهداً متعمداً للتقليل من أهمية تداعياتها الأوسع على أمل أن يكون من الممكن حلها على المستوى الإنساني المحض أيضاً. وباعتبار أن ذلك لم يحدث، فقد برز الآن تيارَا رأي متمايزان لتفسير الأسباب الكامنة وراء الأزمة.

هناك إجماع على الأساسيات، ومنها أن بيلاروس عرضت خلال الصيف حزم سفر اشتملت على رحلات الطائرة، وتأشيرات الدخول، وبعض التسهيلات. وفي وقت ليست وجهة ذائعة الصيت في أوساط المسافرين من الشرق الأوسط الذي مزقته الحروب، جعلت بيلاروس الأشخاص الذين اشتروا [لبوا هذا العرض] يظنون أن أنهم يحظون فعلاً على بطريق آمن إلى الاتحاد الأوروبي، وتم توفير وسائل مواصلات لنقل الكثيرين إلى الحدود البولندية في رحلة الذهاب فقط.

ويتباعد التفسيران حين يتعلق الأمر بالجهة التي تتحمل المسؤولية.. فهل تقع المسؤولية على ألكسندر لوكاشينكو، الرئيس البيلاروسي، الذي كانت مشروعيته، ولا تزال، موضع تساؤل منذ الانتخابات في عام 2020، ولا سيما أنه ربما تعلم كيف يستخدم الهجرة “كسلاح” من أجل انتزاع مكاسب من الاتحاد الأوروبي. وبالفعل، يبدو أن هذا قد تأكد جزئياً، في الأقل، بواسطة تقارير نقلت عنه قوله المفترض لأنغيلا ميركل في مكالمة هاتفية أخيرة، إن ثمن الحل هو رفع الاتحاد الأوروبي العقوبات التي فرضها [عليه وعلى نظامه] في أعقاب الانتخابات والعدول عن رفض الاعتراف به كرئيس.

أما التفسير الثاني، فيرى اليد الشريرة لموسكو وراء كل شيء، معتبراً لوكاشينكو مجرد دُمية يتلاعب بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بيد أن ثمة تنويعات [سرديات] أخرى في هذا التفسير. وطبقاً لأحدها، فإن بوتين يريد أن يشدد بوضوح للوكاشينكو على مدى ضعفه، ويعجل بالتالي وتيرة الاتحاد الكامل بين بيلاروس وروسيا. وحسب نوع آخر، فإن “استعمال الهجرة كسلاح” يمثل فقط الجزء الأخير من خطة بوتين المفترضة لبث الفرقة بين دول الاتحاد الأوروبي والغرب بوجه عام. ووفقاً لثالث، فإن الأزمة هي عبارة عن تكتيك روسي للتضليل يراد منه تحويل الأنظار فيما تضع روسيا أوكرانيا نصب عينيها. وتظهر تقارير أخيرة عن تحركات القوات [الروسية]، كما لاحظ أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي، ميل روسيا للحرب “الهجينة”.

وإذا كانت ثمة فائدة مرجوة من رأيي، فمن وجهة نظري، تشعر روسيا، على الأرجح، بالحيرة جراء الأحداث التي تشهدها الحدود البيلاروسية – البولندية شأن كثير من الدول في الغرب. وليس ثمة شيء على الإطلاق تكسبه موسكو من أي من جوانب هذه الأزمة. وفي الواقع، فهي تضررت سلفاً إلى حد ما بسبب العلاقة التي تجمعها ببيلاروس. والفكرة القائلة إن لوكاشينكو لا يستطيع التصرف من دون إيعاز من موسكو خاطئة، كما يستدل من تردد بوتين في أن يهب إلى مساعدته خلال الاحتجاجات التي أعقبت الانتخابات. كما أن لوكاشينكو ليس واحداً من أصحاب بوتين، فالرئيس الروسي يفرد للزعماء الذين لا يستطيعون السيطرة على بلدانهم قدراً خاصاً من الازدراء، كما أظهر تخليه عن فيكتور يانوكوفيتش الزعيم الأوكراني السابق. ولم ينبس بوتين منذ اندلاع الأزمة بأي تلميح لدعمه لوكاشينكو.

وفي الوقت ذاته، كان بوتين أيضاً بشكل غير مألوف سريعاً في الرد على الاتهامات الغربية. وإذ أشار إلى عدد التدريبات العسكرية الغربية التي أجريت في منطقة البحر الأسود، بما فيها تلك التي تم تنفيذها من دون إشعار مسبق، قال الرئيس إن روسيا لن تقوم بأي رد فعل. ولقد بذل جهوداً إضافية لعرض التفاصيل من ألفها إلى يائها حول الأسباب التي تدل على أن روسيا لا تقوم بالتلاعب بسوق الغاز الأوروبي، حتى إنه أمر في مرحلة ما عملاق الطاقة الروسي “غازبورم” بالإفراج عن مزيد من الإمدادات. وحين هدد لوكاشينكو بمنع مرور شحنات الغاز المتجهة إلى دول الاتحاد الأوروبي، وبّخه بوتين بشكل علني على نحو غير مسبوق.

ويوفر الغاز في الواقع مؤشراً كبيراً يوضح ما الذي تعتبر روسيا أنه على المحك وعرضة للخطر. يعرف الكرملين حق المعرفة أن أي خطوة خاطئة من قبله، حتى في هذه المرحلة المتقدمة [من مراحل المشروع]، من شأنها أن تحول دون البدء بتشغيل خط أنابيب الغاز المثير للجدل “نورد ستريم 2” الذي بات مكتملاً الآن. كما أن موسكو صارت حالياً في المراحل الأولى من التقارب المتواضع [المحدود] مع الولايات المتحدة، والذي يعد غاية منشودة منذ زمن طويل. ولن ترغب موسكو بأي شيء قد يخرج هذه التطورات الإيجابية عن مسارها.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الوضع على الحدود البيلاروسية – البولندية يخلق معضلات للاتحاد الأوروبي أيضاً. وفي الأحوال كلها، إذا كان على الاتحاد الأوروبي أن يمتثل للقواعد الدولية، وتلك التي وضعها هو في شأن معاملة طالبي اللجوء، ويسمح لهؤلاء العالقين في بيلاروس بالدخول إلى بولندا، فإن ذلك سيصب في مصلحة لوكاشينكو. وقد تفسر الخلافات القائمة بين بروكسل ووارسو أيضاً لماذا لم تهب الأولى بسرعة فعلاً لمساعدة الثانية. ولعل قدراً من التظاهر بالجهل يناسب الجميع. تتمتع السلطات البولندية بالحرية الكاملة لاستعمال أدوات بشكل قد يتعارض مع سياسة الاتحاد الأوروبي، مثل خراطيم المياه، ما يسمح لبولندا، في الوقت ذاته، بأن تتخذ لنفسها وضعيتها المفضلة كمدافعة وحيدة عن الجناح الشرقي للناتو.

وعند هذه النقطة، ربما تكون الأخطار الواضحة لمواجهة شبه عسكرية قد حفزت على انطلاق الحركة الدبلوماسية الأولى. فقد أقنع الاتحاد الأوروبي بعض دول العبور بإيقاف الرحلات الجوية، ووفرت بيلاروس ملجأ أولياً لعديد من الراغبين بالهجرة، ممن لا يستطيعون الوصول إلى بولندا، ويهددون بالتحول إلى مشكلة تثقل على بيلاروس نفسها. في غضون ذلك، قررت ألمانيا تعليق عملية ترخيص “نورد ستريم 2″، لأسباب عزتها إلى جوانب فنية تنظيمية، وهو إجراء يرقى إلى توجيه تحذير لموسكو لئلا تتسبب في مشكلات. ويظهر حالياً أن اتخاذ القرار النهائي في شأن خط الأنابيب المباشر بين روسيا وألمانيا، سيؤول إلى الحكومة التي ستخلف ميركل، كما الموقف المتعاون في مسألة بيلاروس.

وعلى الرغم من أن خطر المواجهة المباشرة ربما قد أخذ يتراجع، فإن من الجدير بالملاحظة أنه كان هناك على الدوام بُعد تاريخي وجيوسياسي أوسع لهذه الأزمة. وإن غابة بيلافيج، حيث تدور الأحداث الدرامية الحالية، هي المكان الذي وقّع فيه قادة كل من الاتحاد الروسي وأوكرانيا والبلاد التي باتت تعرف حالياً ببيلاروس، قبل نحو 30 عاماً من هذا الشهر، الاتفاقات التي نصّت من الناحية القانونية على فرط عقد الاتحاد السوفياتي.

وكانت الاتفاقات التي تم توقيعها في منتجع بياوفيجا في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991، المسمار الأخير في نعش اتحاد الجمهوريات السوفياتية، في أعقاب إخفاق غورباتشوف في تأسيس كومنولث الدول المستقلة، بعد الانقلاب الذي فشل، لكنه مع ذلك نسف سلطته، وإثر حل الحزب الشيوعي السوفياتي الذي تم في غضون وقت قصير. ومع حلول منتصف ديسمبر، انفصلت الأجزاء الأخرى، وانفرط عقد الاتحاد السوفياتي، ثم استقال غورباتشوف في 25 ديسمبر. وهكذا، انتهت التجربة السوفياتية.

وبهذا المعنى يمكن النظر إلى الأحداث التي تشهدها الحدود البيلاروسية – البولندية، إلى جانب الانتفاضة الفاشلة ضد انتخاب لوكاشينكو، على أنها أحدث الهزات الارتدادية المتعددة التي تسبب بها انهيار الاتحاد السوفياتي. وعندما سقط الاتحاد السوفياتي، لم ينتهِ تفككه إلى كارثة إنسانية هائلة أو إلى مجزرة كان من الممكن كثيراً أن ينتهي إليها، بيد أن انهياره ترك عدداً لا يحصى من النزاعات التي لم تلقَ الحل [حتى الآن]، والتي ستنفجر في وقت لاحق، كما ترك شرخاً جديداً بين الشرق والغرب، فيما انضمت دول الكتلة الشرقية السابقة إلى مؤسسات الغرب.

إنه شرخ تبرز معالمه بشكل مجسد من خلال المواجهات الأخيرة في غابة بيلافيج (بياوفيجا) الواقعة بين الاتحاد الأوروبي، وآخر بقايا الاتحاد السوفياتي.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …