بقلم: نجيب صعب – صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم- أما وقد انتهى مؤتمر غلاسكو المناخي إلى وثيقة توافق عليها الجميع، فقد دقت ساعة الحقيقة لتحديد التبعات المترتبة عنها. وليس صحيحاً أن التسويات التي حصلت على طريق إصدار الوثيقة تخفف من الالتزامات، لأن الأهم منها الإشارات التي تعطيها لواضعي السياسات الوطنية والمستثمرين، بما يعتبر خريطة طريق للمستقبل. فكيف ينعكس هذا على القطاعات المختلفة، وماذا يتوجب على الحكومات والقطاع الخاص فعله للتعامل مع المرحلة الجديدة؟
الاتجاهات المستقبلية في قطاع الطاقة واضحة، من خلال الاتفاق على “الخفض التدريجي” لاستخدامات الفحم الحجري و”التخلص التدريجي” من الدعم غير الكفء للنفط والغاز. كان الاتجاه صريحاً بوضع حد سريع لإنتاج الطاقة من الفحم الحجري، أكثر مصادر الوقود تلويثاً، خاصةً أن تخفيض الانبعاثات الكربونية منه عملية مكلفة جداً، مما يجعل إبداله بمصادر أخرى أجدى وأرخص. لكن الدول النامية التي تعتمد عليه كمصدر لإنتاج الكهرباء وتحريك الصناعة، مثل الهند وجنوب أفريقيا، تحتاج إلى دعم مالي يعينها على التحول. وقد وفرت مقررات المؤتمر مخرجاً لحل هذا الإشكال، بتطويل الفترة الانتقالية للدول النامية والبدء بزيادة مصادر التمويل، عبر صناديق دولية وحكومية، كما من القطاع الخاص.
أما الاكتفاء بالإشارة إلى “التخلص التدريجي” من الدعم الذي يفتقر إلى الكفاءة والفعالية في قطاعي النفط والغاز فهو إشارة صريحة إلى استمرار الحاجة إلى الوقود الأحفوري النظيف في العقود المقبلة، كجزء أـساسي من مزيج الطاقة. وهذا وضع بقوة على طاولة النقاش موضوع الطاقة الأحفورية ذات الكفاءة والنظيفة. فكلما تعززت تدابير كفاءة الإنتاج والاستهلاك المنخفض الانبعاثات، وتطورت تكنولوجيات التقاط الكربون وتخزينه، طالت فترة استخدام النفط والغاز. لكن الرسالة هنا واضحة، وهي ضرورة استغلال الدول المصدرة لكل دخل ممكن من النفط والغاز خلال السنوات المقبلة لتنويع الاقتصاد وتعزيز مصادر الإنتاج والدخل.
سيدرك المستثمرون أن عصر التكنولوجيات النظيفة قد بدأ ولن يمكن إيقافه، وعليهم الالتحاق سريعاً بالركب لئلا يفوتهم القطار. ويتراوح هذا من استثمار الأصول المالية في السندات والشركات “الخضراء”، أي تلك التي تنشط في القطاعات الإنتاجية الصديقة للبيئة وذات الانبعاثات الأقل، والتي تؤمن بدائل الانتقال إلى الاقتصاد الجديد. ولا يقتصر هذا على الأفراد، إذ بدأت الصناديق التقاعدية، خاصةً في الدول الأوروبية، بتحويل أصولها المقدرة بتريليونات الدولارات إلى أسهم في شركات تلتزم بالقواعد البيئية السليمة، بما فيها الكفاءة في استهلاك الموارد الطبيعية وخفض الانبعاثات.
قرار كثير من الحكومات وكبريات شركات السيارات في العالم بوقف تصنيع أو بيع مركبات جديدة عاملة على الوقود بين 2035 و2040 سيؤدي حتماً إلى تغيير جذري في أسواق السيارات وخيارات المستهلكين. كما يستتبع تحولاً في الاستثمارات نحو إنتاج الكهرباء بأساليب أنظف وتعميم تكنولوجيات الهيدروجين، وبناء شبكات ضخمة لمحطات تعبئة السيارات الكهربائية والهيدروجينية. ولما كان متعذراً التقاط الكربون مباشرة من محركات السيارات العاملة على الوقود، فمن الممكن التقاطه في محطات كبيرة لإنتاج الكهرباء. لذا يمكن للدول المنتجة للنفط والغاز الاستفادة من هذا التحول، وذلك بإنتاج الهيدروجين من مياه البحر، في مصانع للكهرباء تستخدم الوقود المحلي مع تقنيات التقاط الكربون وإعادة استعماله أو تخزينه. فإنتاج الهيدروجين، وهو ناقل نظيف للطاقة، يحتاج إلى فصله عن الأكسجين من الماء بالتحليل الكهربائي. وخلافاً للكهرباء من الشمس والرياح، يمكن تخزينه على شكل سائل مضغوط، جاهز للتعبئة الفورية في خزانات السيارات في محطات توزيع شبيهة بتلك المخصصة للبنزين والديزل، مع تعديل في الخزانات. كما يمكن توليد الكهرباء التي يحتاجها الهيدروجين من الشمس. والدول النفطية غنية بكل هذه الموارد: الشمس والنفط ومياه البحر، الأمر الذي يمكنها أن تصبح رائدة في تجارة الهيدروجين، مثلما كانت رائدة في تزويد العالم بالنفط والغاز. كما تبقى للنفط استخدامات غير محدودة لإنتاج المواد الصناعية، تتعدى مجرد الحرق لإنتاج الطاقة.
تدابير تخفيض الانبعاثات الكربونية ستنعكس مباشرة على خيارات المستهلك داخل منزله. فمع ارتفاع الرسوم على انبعاثات الكربون، سيتجه المزيد من السكان إلى تركيب ألواح شمسية على سطوح منازلهم لإنتاج الكهرباء. ويتحولون إلى المضخات الحرارية للتبريد والتدفئة، ويستثمرون في العزل الحراري للمنازل والأبنية لتخفيف الاستهلاك، ويختارون الأجهزة المنزلية الكهربائية والمصابيح الموفرة للطاقة، مما يفرض على التجار عرض بضائع تخضع للشروط الحكومية للكفاءة وتلبي طلبات المستهلكين في آن معاً.
وسيؤدي وضع سعر للانبعاثات الكربونية إلى ارتفاع في أسعار السلع المستوردة، مما يشجع على الإنتاج المحلي. كما سترتفع تكاليف الطيران والعطل الخارجية، وهذا يشجع السياحة الداخلية والإقليمية. وقد تنبهت شركات عالمية تعتمد على نقل البضائع إلى هذه التحديات مبكراً، مثل إيكيا وأمازون ويونيليفر، فتعهدت من اليوم أنها ستعتمد سفناً وشاحنات تستخدم وقوداً أنظف لنقل بضائعها. وهي بذلك تتجنب انعكاس ضريبة الكربون ارتفاعاً كبيراً في أسعار منتجاتها، بما يضعف قدرتها التنافسية.
مقررات غلاسكو تعطي فسحة أكبر للطبيعة، بوقف قطع الغابات وإعادة إحيائها. لكن هذا قد يرفع أسعار الغذاء، إذ يوقف توسع الأراضي المخصصة للمراعي وزراعة المحاصيل الغذائية. والاستجابة الوحيدة هي التحول إلى الزراعات المستدامة بيئياً والحد من الهدر وتعزيز الكفاءة، مما يفتح الباب على فرص استثمارات غير محدودة.
لقد طلبت وثيقة غلاسكو إعادة نظر دورية بحجم الأموال المخصصة لمساعدة الدول النامية على مواجهة تحديات التغير المناخي، لتعديلها سريعاً وفق الحاجة. كما فرضت على الجميع، أغنياء وفقراء، تقديم جردة حساب سنوية بما تم الالتزام به وتحقيقه من نتائج، بهدف تصحيح المسار في وقت مبكر. هذا يفرض على الدول الغنية كشف نياتها الصحيحة وصدق التزاماتها، كما يفرض على الدول النامية الشفافية في الإبلاغ عن أوضاعها وأعمالها، مع اعتماد سياسات ملائمة تمنح الثقة للمانحين والمستثمرين.
صحيح أن الاكتشافات والابتكارات التكنولوجية تجعل مواجهة تحديات التغير المناخي أقرب منالاً. لكنها تبقى غير كافية ما لم تترافق مع تبديل أساسي في أنماط الحياة، والتحول من فكرة أن الأفضل هو الأكبر والأطول إلى تفضيل الأجمل والأرقى والأكثر استدامة.