بقلم: إياد العنبر – موقع الحرة
الشرق اليوم- كنتُ أنوي الكتابةَ عن النموذج الديمقراطي في العراق في ضوءِ المؤشّر العالَمي لِلديمقراطية الذي تعدّه سنوياً مجلّةُ “إيكونوميست” البريطانية، وجاء العراقُ في المرتبة 118. لكنَّ مواقفَ ومبادرات القوى السياسية المُعترضة على نتائج انتخابات أكتوبر الماضي جعلتني أراجع حساباتي بشأن المقاربات النظرية والأكاديمية التي يمكن مِن خلالها تحديد وصفٍ لِلديمقراطية في العراق.
ووجدت أنَّ الوصفَ الأدقّ -والذي ينطبق على تصريحات زعماء الكتل السياسية الخاسرة لمقاعدها- موجودٌ في الأمثال والدلالات الشعبية التي تتردد على ألسن العراقيين.
عندما يريد العراقيون توصيف أيّ بضاعةٍ بأنّها غير أصلية أو مزوَّرة يقولون: إنها مِن (سوق مُرَيدْي)! وهو مِن أهم الأسواق الشعبية في مدينة الصدر ببغداد، ويُعرَف عنه مكاناً لِتزوير الوثائق أيضاً، ويُذكَر أنّ صدام حسين في إحدى جلسات محاكمته وهو في قفص الاتهام، قد شككَ بالوثائقِ المقدَّمة ضدَّه، واعتبرها مزوَّرة وأنَّ “مثلها يُباع بسوق مُرَيدْي”!
لا يمكن لأيّ وصفٍ أن يختصر مهزلةَ المبادرات التي يطرحها بعض “الزعماء السياسيين” الذين خسروا مقاعدَهم في الانتخابات إلا بأنّها انقلابٌ واضحٌ وصريحٌ على الديمقراطية التي صدّعوا رؤوسَنا بالنضالِ من أجلها وأنّها مِن أهم المكاسب التي رسّخوها في نظام ما بعد 2003! واليوم هم يريدونها أن تكون ديمقراطية ولكنّها ليست ناضجة، وإنّما ديمقراطية مزوَّرة يمكن شراؤها مِن سوق مريدي! هذه باختصار رسالتهم التي لا يريدون التصريح بها، لأنَّ فهمهم للديمقراطية ينحصر ببقائهم في سدّة الحكم كزعماء وكقادة.
السيد عمار الحكيم -الذي يستحق أن يدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتباره أكثر سياسي طَرحاً لِلمبادرات- كانت مبادرته الأخيرة لِحلّ أزمة “الانسداد السياسي” تعنى بخسارة كتلته لِلمقاعد التي حصل عليها في انتخابات 2018، ولا تأبه مبادرتُه بمسألةِ عجز النظام عن استيعاب متطلبات الجمهور ولا حتى بفشل النظام في توثيق العلاقة بين المجتمع والدولة.
تتلخص مبادرة السيد الحكيم بطرح مبدأ جديد في حساب المشاركة السياسية في الانتخابات، تعتمد على أساس أنَّ الفوز ليس في الحصول على المقاعد البرلمانية، وإنما في مجموع الأصوات التي يحصل عليها جميع المرشَّحين لِلكيان السياسي في كل الدوائر الانتخابية! وعلى ذلك يكون تحديد القوى الفائزة بالانتخابات قائماً على أساس (مستوى المقاعد والأصوات)! وهذا قانون جديد لاحتساب الأصوات الانتخابية لم نسمع عن تطبيقه إلا في نموذج الديمقراطية العراقية التي يريدها السيد الحكيم!
تتناقض هذه المبادرة مع إحدى الغايات الرئيسة التي جرى طرحها على أساسها، والتي تدعو إلى “إعادة الثقة بين الجمهور ونظامه الديمقراطي ومؤسسات الدولة والقوى السياسية”، إذ كيف يمكن استعادة الثقة المنعدمة أصلاً بالانتخابات، وزعيم تحالف قوى الدولة يريد اعتماد معيار جديد يلغي نتائجَ الانتخابات القائمة على أساس قانون انتخابي شرّعه مجلس النوّاب، والاعتماد على توافقات سياسية تريد إلغاء النتائج القانونية والانتقالات إلى تفاهمات سياسية تريد ترتيب أوضاع القوى الخاسرة مِن خلال نفوذها السياسي الذي بدأت تستشعر الخطرَ بخسارته بعد خسارة الانتخابات.
قد يكون السيد الحكيم معذوراً في رفضه تقبّل خسارة الانتخابات، كون جذور حزبه وبيئته السياسية الشخصية تنتمي إلى الإسلام السياسي، الذي يختزل الديمقراطيةَ باعتبارها انتخابات مهمّتها الرئيسة الوصول إلى السلطة والبقاء فيها، وإذا أتت بنتائج عكس ذلك يتم رفضها والتشكيك والطعن بنتائجها. ومن هنا الانتكاسة الحقيقة التي يتعرّض لها مشروع التحوّل نحو بناء نظام ديمقراطي في العراق تأتي مِن خلال المبادرة التي طرحها رئيسُ الوزراء الأسبق الدكتور إياد علّاوي والذي يُحسَب على التيار الليبرالي.
إذ طرح السيد علّاوي في لقاء تلفزيوني حلولاً لأزمة الاعتراض على الانتخابات: “عقد مؤتمر مصغَّر وتعويض الخاسرين” أو الاتفاق على “إعادة الانتخابات بعد سنة أو أقل بدلاً من الذهاب نحو الحرب الأهلية”، أو إيجاد مخرجات بالاتفاق على تسويةٍ بمنحِ مقعدٍ أو أكثر لِلقوى الخسارة لتعديل وضع خسارتهم في بعض المناطق! كلّ هذه الحلول تعني بكلمة واحدة الانقلاب على الديمقراطية.
هذه المبادرات التي يراد تسويقها باعتبارها الحلول، تعبّر عن تفكير مأزوم بالديمقراطية بصورةٍ عامة والانتخابات تحديداً، لأنَّ زعماء الطبقة السياسية التي خسرت في الانتخابات تعتقد أن خسارتها لا تنحصر في عدد المقاعد وإنما الخسارة الحقيقية تكمن في إمكانية خروجها من حلبة التنافس على السلطة والنفوذ الذي عملت طوال ثمان عشر عاماً على تأسيس المنظومة السياسية وفق قواعد تقاسم غنائم السلطة وتحويل الدولة ومؤسساتها إلى دوائر لِزبائن وحاشية زعماء الأحزاب.
طوال السنوات الماضية كانت نتائج الانتخابات في العراق مهمّتها الرئيسة منح الشرعية لنظام الصفقات والتوافقات بين الزعماء السياسيين، ولذلك عندما باتت بعض هذه “الزعامات” تستشعر خطر خروجها من معادلة تقاسم السلطة وفقاً لنتائج انتخابات أكتوبر، لذلك عدَّت الموضوعَ انقلاباً على نظام التوافقات.
ويبدو أن بعض القيادات السياسية التي كانت تَتصدَّر المشهدَ طوال السنوات الماضية تريد ترسيخ مبادئ جديدة لنموذجٍ ديمقراطي يختصرها على صفقات وتفاهمات بين الزعماء السياسيين، وَبعد أن استشعرت خطر تبعات خسارتها في الانتخابات بدأت تسوّق خطاباً سياسياً يحمل في طيّاته نبرات التحذير من الانقلاب على بنية التوافقات، على اعتبار أنَّ هذا الانقلاب يؤدّي إلى تهديد السِلمِ الأهلي أو يقودنا إلى حربٍ أهلية!
قادةُ (ديمقراطية سوق مُرَيدْي) لا يريدون الخروجَ مِن دائرة تفكيرهم الضيّق بالانتخابات والديمقراطية التي تنحصر فقط بتحقيق مصالحهم. فهم يتجاهلون عَن غباءٍ سياسي تغيّرَ المعادلة السياسية بعد احتجاجات تشرين 2019 التي أكّدت على أن الجمهور بات صوتاً لا يمكن تجاهل حضوره في الشارع تعبيراً عن مطالبتهِ بنظامٍ سياسي يعمل على ضمان حقوقه وحرياته ولا تقتصر وظيفته على إدارة موارد الدولة لصالح أحزاب السلطة وزعامتها.
المعادلةُ يجب أن تتغيَّر، فبدلاً عن التفكير بأنَّ الديمقراطية في العراق يمكن أن تأتي مِن نضوجٍ في الممارسة السياسية في سلوك الزعامات -وإنْ كانت لا تؤمن بالديمقراطية- لكنّها مستقبلاً قد تنمط ممارساتها وسلوكياتها السياسية باعتباره المسلك الوحيد لِلعمل السياسي. فالرهانُ بعد انتخابات أكتوبر يكون على تصحيح مسار النظام الديمقراطي والتحول نحو ديمقراطية ناضجةٍ في العراق يجب أن تقوم على ترسيخ مبادئها ومفاهيمها وسلوكياتها في نمطِ تفكير الأجيال الشبابية.