بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي
الشرق اليوم– يميل الكاتب الى أن يقدم لقرائه موضوعات تثير اهتمامهم حتى لو كانت أقل أهمية، ويبتعد عن الموضوعات التي يعتقد أنها ستكون أقل قراءة وربما أكثر ضرورة للدرس، ولكني اليوم قررت العكس، أن أحدّث قرائي في ما أعتقد أنه أكثر أهمية لحياتهم ومعيشتهم، ولو غامرت بانصراف البعض عن إكمال القراءة. الموضوعات هي ثلاث قضايا، أولاها تغير المناخ في العالم، وثانيتها الإرهاب وتأثيره في الإنسان، وثالثتها التقنية الحديثة. ليس بينها رابط في ما يظهر، ولكنه هناك. إذاً العالم يواجه قضايا عابرة للمجتمعات وللدول وحتى للأقاليم، تؤثر في الإنسان بصرف النظر عن موطنه أو ثروته أو عقيدته.
كنت قريباً من قمة المناخ في مدينة غلاسكو الأسبوع الماضي، ووجدت أن موضوع تغير مناخ الأرض ليست له علاقة فقط بارتفاع درجة الحرارة، أو حتى باحتمال اختفاء بعض المدن التي نعرف في المستقبل، ولكن أيضاً له علاقة بالثورات والانقلابات والصراع البشري الدموي، لما تسببه من تصحر للأرض ونضوب الموارد المائية وارتفاع في أسعار السلع الغذائية على مستوى العالم. على سبل المثال، فإن القتال في السودان في بعض المناطق هو بسبب تغير المناخ، والصراع على ما تبقى من إمكانات الرعي للجماعات التي تعيش عليها، وقد سفكت دماء وتهددت الدولة بالانفراط بسبب ذلك التصحر، وفي جارة السودان إثيوبيا، فإن الصراع بين مكوّناتها العرقية هو بسبب شح الموارد والتي أساسها تغير المناخ، أما في سوريا فإن جزءاً مما حدث طوال العقد الماضي هو أيضاً بسبب تغير المناخ وتحول مناطق زراعية الى جرداء، ما جعل قاطنيها يهجرونها الى المدن القريبة، بالتالي زادت مشكلات الفقر والصراع على لقمة العيش، والأهم الهجرة، فتغير المناخ جعل من أعداد كبيرة من البشر تهاجر أو تجرب أن تهاجر حتى لو غامرت بحياتها، وما قوارب الموت في البحر الأبيض المتوسط إلا بسبب ذلك التصحر في القارة الجنوبية وما حولها، والازدحام على حدود الدول الأوروبية وموات البشر في خيام بالية على الحدود جزء من مشكلة أوروبا بمجموعها، بل وتهدد الاختلافات على سياسات الهجرة الرابطة الأوروبية بالانفراط أكثر من أي عامل آخر. الهجرة من أميركا الجنوبية الى الشمالية هي أيضاً بسبب تغير المناخ ونضوب الموارد المتاحة للناس، والتي تفجر معركة سياسية في الفضاء السياسي الأميركي ينجح فيها رئيس ويسقط رئيس في أكثر الدول تقدماً، وينمو اليمين المعادي للهجرة في المجتمعات المقصودة من المهاجرين، وقد كان هم العالم بعد وصول “طالبان” الى الحكم في أفغانستان هو كيف يمكن تقليل موجات الهجرة من ذلك البلد الى درجة أن بعض الدول المجاورة بدأت بناء سياج على حدودها. حتى الأوبئة التي حذر من تفشيها في المستقبل تفشياً هائلاً بعض الخبراء في غلاسكو سببها تغير في مناخ العالم.
الإرهاب أيضاً يقطع حدود الدول والمجتمعات، ويشكل، أقله، هاجس فقدان الأمن في مدن العالم، وما يتبع ذلك من نمو في سن القوانين المقيدة للحريات، ولكنه أيضاً يكلف الدول مبالغ هائلة للإنفاق على ما يسمى (محاربة الإرهاب)، ويشيع جواً من الخوف من الآخر بسبب لونه أو دينه بل حتى لهجته. ولدينا في بلدان الشرق الأوسط ينتشر الإرهاب تحت مسميات فضفاضة منها (المقاومة)، وهي تعبير عائم وغير دقيق، ومنها (الجهاد) وهي أيديولوجيات تطلق الكثير من عوامل الصراع في المجتمعات، الى درجة أن تصبح الدولة (فاشلة) ويحارب بعض المجتمع بعضه الآخر. في محاولة ضبط موجات الإرهاب تلك احتار العالم، فقرر منذ بضع سنوات أن ينتقل من حرب الإرهاب الى (إدارة الإرهاب)، فقررت الدول أن تنشئ مؤسسات عابرة للدولة، وصرفت على مطاراتها بلايين الدولارات خوفاً من عمليات الإرهاب.
العامل الثالث هو التطور الهائل في التقنية، وهي من جهة مفيدة للبشرية، وفي الوقت نفسه ضارة. فلم تعد اليوم المعلومات (الصحيحة والخاطئة) حكراً على مجموعة صغيرة من الناس، بل أصبحت متاحة للناس جميعاً، وتطورت التقنية ومحاولة اكتشاف عقاقير الى إطلاق أسوأ ما يمكن أن ينتجه العقل البشري ضرراً على جموع البشر، أما إشاعة أفكار ومقولات مخربة فهي تجوب العالم في دقائق، إن لم يكن في ثوان.
ماذا يجمع تلك الثلاثية؟ الرابط هو أن العالم يتأثر ويوثر في بعضه بعضاً تأثيراً غير مسبوق، فليست معالجة تدهور المناخ قضية للولايات المتحدة وأوروبا والصين، بل يشترك فيها العالم. في القمة الأخيرة، وعلى الرغم من الخلاف الصيني الأميركي، إلا أن الاثنين اجتمعت رغبتهما في التعاون، لأن في ذلك مصلحة مشتركة، وفي قضية الإرهاب يحاول العالم أن يحد من انتشاره من خلال تعاون الدول ووضع مواثيق دولية، الإرهاب ليس مشكلة دولة أو إقليم، هو مشكلة عالمية تحتاج الى تضافر جهود الجميع أو الأغلبية، والسيطرة على التقنية كذلك، فهي وصلت الى مرحلة التخريب في ما يسمى (الحرب السبرانية) التي تخترق المؤسسات والبنوك وقوائم الناخبين والتجسس على خصوصيات الأفراد. المراد من كل ما تقدم أن أفكار (الدولة القومية) التي تريد أن تبسط هيمنتها على الجوار قد ولى زمنها، والحديث عن (صراع الغرب والشرق) أصبح من عناوين الماضي، ليس للإنسان في العصر الحالي إلا التعاون الجاد لمواجهة قضايا عابرة بالضرورة للاهتمامات المحدودة واستمرار سفك الدماء.