بقلم: إبراهيم الزبيدي – العرب اللندنية
الشرق اليوم– لا شك في أن نتائج الانتخابات الأخيرة أحدثت شقوقا عميقة غير متوقعة في نظام المحاصصة الذي ظل معتمدا، ودون تغيير، منذ تأسيس العملية السياسية العراقية في ظل الاحتلال الأميركي ووريثه الاحتلال الإيراني، والتي فصلتها الأحزاب الموالية لإيران والحزبان الكرديان على مقاسها، ولم تجلب للشعب العراقي سوى الفوضى وقلّة الرزق والعزلة التي تحمَّلها المواطن العراقي بصبرٍ إلى أن طفح به الكيل.
والقصة معروفة. فيومَ أن تمكن النظام الإيراني، بتسهيلٍ متعمَّد من الأميركان أو بغبائهم وعدم مبالاتهم، من جعلِ العراق منطقةَ استراحة وتموين وتمويل، أصبحت الدولة العراقية برؤسائها ووزرائها ونوابها وقادة جيوشها وقوات أمنها، وحتى بقضائها، ملْكاً صرْفاً من أملاكه يديرها مباشرة أو بوكلائه المعتمدين المؤتمنين على مخططاته وأهدافه التي ليس فيها لمصالح الشعب العراقي مكان.
ومن تابَع مسرحيات الانتخابات التي سبقت انتخابات العاشر من أكتوبر الماضي ودقق في التوافقات والتفاهمات والتقاسمات التي كان يتمّ بموجبها اختيار القادة وكبار الموظفين، وحتى صغارِهم عندما تقضي الحاجة بذلك، وخصوصا ألاعيب الكتلة الأكبر وفتاوى مدحت المحمود، لا بد أن يكون قد آمن بأن لإيران مصلحة عليا في أن تُبتذل المقامات، وتُنتهك الثوابت الوطنية، وتُهان إلى الحد الذي يَفقد معه المواطنُ العراقي احترامَه للحكومة والبرلمان والجيش والأمن والقضاء.
وكان المبدأ الذي اخترعه السياسيون العراقيون وحلفاؤهم الإيرانيون، وتلقّفه الأميركيون وباركته المرجعية، هو مبدأ شرعية (الأغلبية العددية) التي تقول بأن الشيعة يشكلون 60 في المئة من سكان العراق، والسنّة 20، والكرد 20، بعد فصلهم عن طائفة السنة العراقيين.
وعلى أساس هذه الشرعية أصبحت رئاسة الحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة، بكل ما فيها من صلاحيات وإمكانات وثروات وطاقات، من حصة البيت الشيعي الموالي لإيران، حصرا، ورئاسةُ البرلمان من حصة الأقلية السنية (وقد أعطيت لسياسيين أطلق عليهم أبناءُ محافظاتهم لقب سنة ولاية الفقيه)، ثم رئاسة الجمهورية للأقلية الحاكمة في كردستان، والمتفاهمة مع معسكر إيران، هي الأخرى.
بالمقابل، تمَّ غلقُ أبواب العملية السياسية بوجه أي شخصية أو منظمة أو جماعة تطالب باعتماد الشرعية البرلمانية التي يكون فيها الطرفُ الحاصل، بحرية وشفافية ونزاهة، على أكبرِ عددٍ من مقاعد البرلمان هو الذي يختار رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ورئيس البرلمان على أساس الكفاءة والخبرة والنزاهة والوطنية، من أي طائفة كان، أو قومية، أو دين.
ولأن نواياهم لم تكن وطنية فقد منحوا أنفسهم، بموجب تلك الشرعية المغشوشة، دكتاتورية مطلقة، وانغمسوا في الكسب الحلال والحرام، معتقدين أن الدول الخارجية التي يعملون لحسابها سوف تحميهم من غضب الغاضبين عندما تحين ساعة الحساب.
رغم أنهم، جميعهم، يتغنون بالديمقراطية، ويطالبون بالمصالحة الوطنية، ويتمسكون بسلطة القانون، وهم يكرهون الديمقراطية، ويمقتون المصالحة، ويخافون من سلطة القانون.
حتى جاءت الانتخابات الأخيرة التي يمكن القول إنها أقل تزويرا من سابقاتها، لتنسف مبدأ الأغلبية العددية، وتضع مكانَه مبدأ الأغلبية البرلمانية، رغم أن الفائزين بهذه الأغلبية هم من أبناء الأغلبية العددية، أيضا، وبرغم أن رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة بقيَ مشروطا بأن يكون شيعيا وليس عراقيا من طائفة أو قومية أخرى، حتى لو كان مواليا ومن أصدقاء الولي الفقيه.
وأيا كان الخلاف على نتائج الانتخابات الأخيرة، فإن الأغلبية التي أنتجتها صناديق الاقتراع، هذه المرة، برغم عيوبها، أصبحت أمرا واقعا جديدا ومن ثوابت الشكل الجديد للديمقراطية، وسيجعل العودة إلى الشرعية المغشوشة السابقة أشبه بالمستحيل.
نعم، ستبقى إيران، على امتداد السنوات الأربع القادمة، هي ربان السفينة العراقية، وقد تُجبر مقتدى الصدر على التوافق مع الخاسرين وقد يتقاسم معهم العملية السياسية، وتحت وصاية الحرس الثوري الإيراني أيضا. فكل شيء محتمل.
ولكن الحماسة الشعبية الواسعة التي استقبلت بها الملايين العراقية هزيمةَ السلاح الإيراني في الانتخابات الأخيرة تنبئ بأن الانتخابات القادمة، إذا ما جرت في 2025 بالوعي الشعبي الجديد، وبالإقبال الوطني الشامل المتوقع على المشاركة في الاقتراع، خلافا لما جرى في الانتخابات الأخيرة، كفيلةٌ بولادة الصيغة الصحيحة من صيغ الشرعية البرلمانية المنتظرة، والتي سيصنعها نوابٌ جدد من أجيال جديدة متنوّرة مؤمنة بأن العراق للعراقيين، دون تمييز أو تفريق بين مواطن وآخر إلا بالكفاءة والوطنية والنزاهة وحسن السلوك.
بعبارة أكثر وضوحا. لقد أنتجت الانتخابات الأخيرة واقعا متغيّرا على الساحة العراقية وضع سلطة النفوذ الإيراني على طريق التراجع، وربما الضمور، وفرَز عمليا وواقعيا بين معسكر أصحاب السلطة السابقين، حكاما ومعارضين، وبين عموم الشعب العراقي المصر على استعادة وطنه سليما ومعافى، والراغب في التعايش بين طوائفه وقومياته وأديانه سلما وعلى أساس الهوية الوطنية العراقية، وليس على أساس الفصل المفتعل بين مكوناته المتنوعة.
وأيا تكن طبيعة الأحداث في الأسابيع القادمة، فإن الانتخابات بعد أربع سنوات حبلى بالمتغيرات، ستكمل تصحيح العملية الديمقراطية الوليدة في العراق. وهذا هو مبعث التفاؤل بالغد القادم المنتظر.