بقلم: إياد العنبر – موقع الحرة
الشرق اليوم- كم هو بسيطٌ وهَيّنٌ تبديل المواقف عند زعماء الطبقة السياسية في العراق، ولم يعد مستغرَباً تشخيص التناقض والتحوّل مِن موقفِ التبني إلى الرفض بشأن قضيةٍ واحدة! فعندما يكونون فائزين بالانتخابات يرفضون الطعنَ بنزاهتها وادعاءات التزوير، ولكن عندما يخسرون لا يبتكرون طعناً ولا تهمةً إلا ويتم توظيفها في الطعن بالانتخابات.
والتناقض نفسه يمكن تشخيصه عندما تكون لديهم المقاعد الأكثر في البرلمان، إذ تجد أصواتَهم تتعالى بضرورة ترك التوافقات السياسية وتشكيل حكومة على أساس الأغلبية. ولكن عندما تكون مقاعدهم قليلة يعودون إلى دعوات حكومة الوحدة الوطنية أو الشراكة الوطنية، وهي بالتأكيد الوطنية منها بريئة كبراءة الذئب مِن دم يوسف.
تناقضات المواقف والتحوّل مِن التبني والدعم إلى الرفض ليس ظاهرة مستغربة في بلدٍ مثل العراق، لأنَّ السياسةَ فيه تقوم على أساس منطق التغالب والمعيار الذي تكون على أساسه المواقف هو التشبث بالسلطة ومغانمها، ولذلك لا مكان لِلمبادئ والقيم التي يفترض أن تنعكس في الفعل السياسي، ولذلك باتت المهمةُ الأصعب في العراق تحويل الأقوال إلى أفعال.
حتى الأزمات في العراق هي انعكاس لأزمات المواقف الشخصية وليس تعبيراً عن تقاطعات في الرؤى والمواقف السياسية، فالمعادلة التي تحكم تفكيرَ الساسة في العراق قائمة على أساس: رابح- خاسر. ولذلك تجدهم يفكرون إما أن يكون الجميع رابحين أو التوجه نحو الصِدام المسلَّح أو إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار. وهنا تكون السجالات والتصعيد بالمواقف لِلبحث عن ضمانات لِلبقاء ضمن دائرة السلطة ونفوذها. وإطلاقاً لا يكون الخلاف بشأن قضايا وطنية أو تتعلّق بهموم المواطن الذي هو خارج معادلة تفكيرهم أصلاً.
لا يمكن لأيّ أحدٍ من الفرقاء السياسيين ادعاء البراءةَ من أبوّة الفشل، فالجميع شارك في صنعه وتكريسه، رغم أنهم الآن يتباكون على أطلاله. وما سُمي زوراً وبُهتاناً بالتوافقية، هو بعيدٌ كلّ البُعد عن فلسفة وأسس النظام الديمقراطي التوافقي؛ لأنَّ التوافقية تعني المشاركة في صنعِ القرار السياسي ورسم السياسات العامة وليس تقاسم المناصب العليا في الدولة وتحويل مواردها إلى غنائم تتقاسمها الأحزابُ الطائفية والقومية. ومن ثمَّ فهي ليست توافقية وإنّما محاصصة بين زعماء الطوائف والقوميات في تقاسم موارد الدولة ومؤسساتها.
لذلك فإنَّ جميع الحكومات التي تشكّلت على قاعدة المحاصصة وتحت ادعاء “التوافقية”، كانت حكومة أسست لِلفشل والفساد وسوء الإدارة وهدر المال العام، لأنَّ مؤسسات الدولة تحوَّلت فيها إلى دكاكين لشخصيات الحزبية التي تعمل مِن أجل مصلحة الحزب وبعيدة كلّ البُعد عن تحقيق المصلحة العُليا لِلدولة. والفشل والخراب الذي أنتجته هذه المنظومة الحاكمة ليس تهمة ولا ادعاء، بل هي حقيقة بات المواطنُ يتلمّسها في جميع مفاصل حياته اليومية وفي علاقته مع الدولة ومؤسساتها، ويعترف به جميع أفراد الطبقة السياسية.
الحكومة التوافقية تعني العَودة إلى أكذوبة التكنوقراط، إذ فشلت هذه الحكومات التوافقية لأنَّ وزراء “تكنوقراط” أثبتوا أنَّهم الحلقة الأضعف في إدارة وزاراتهم وأنَّهم مجرّد واجهات ديكورية لِلحزب الذي حصل على هذه الوزارة أو تلك. وبما أنَّ الوزير “التكنوقراط” لا يهمّه إلا الحصول على الامتيازات والتمتع بممارسة السلطة والعيش في أجواء رفاهيتها، فهو راض بدور الواجهة الديكورية وفشله، وإنَّ إخفاقه يعود بالضرر عليه وعلى عنوان “التكنوقراط”، ونجاحه –إنْ وُجِدَ أصلاً- فسوف تشاركه فيه أحزاب السلطة.
في المقابل، رغم أنَّ حكومة الأغلبية قد تكون البداية نحو تصحيح مسار النظام السياسي الذي بدأ يتهاوى أمام الضعف والعجز عن الاستجابة لمتطلبات الجمهور، فإنَّ الذهاب نحو حكومة الأغلبية ليس خياراً سهلاً، لأنَّ الأغلبية هنا ستكون مجرّد عدد لأعضاء مجلس النوّاب، لا يجمعهم مشروعٌ واضحٌ وصريحٌ لإدارة الدولة، وإنما هي مجرّد تعبير عن اتفاق بين زعمائهم السياسيين، وهم مجرد أفراد تابعين لقرارِ تحالفهم، إنْ وُجِدَ أصلاً مثل هذا التحالف. وحكومةُ الأغلبية مِن دون مشروع سياسي لإنقاذ ما تبقى من روح الدولة وفاعلية مؤسساتها يحتاج إلى رؤية متكاملة، وقيادة من رجال دولة حقيقيين يقودون معركةً على جبهات عدّة.
المنظومة السياسية في العراق بعد 2003 تأسست على وفق نظام الصفقات التي يتم على أساس تقاسم المناصب العليا ومؤسسات الدولة. لذلك مِن الطبيعي أن يرفض بعض الشركاء السياسيين وتحديداً ما بات يعرف بـ(البيت السياسي الكردي) و(البيت السياسي السني)، الذهاب نحو تحالف الأغلبية السياسية الذي على أساسه تشكّل الحكومة؛ لأنَّ الذهاب نحو حكومة الأغلبية يعني وجود معارضة سياسية مقابلة لها، وهذه المعارضة ستكون حجر عثرة أمام تمرير الصفقات التي تتعلَّق بقضايا اقتصادية وإدارة موارد الدولة المالية التي يجري عقدها في غرف التفاوض السياسي.
إذاً، من تعلَّم على المشاركة في الغنائم، والهروب من تحمل المسؤولية طوال السنوات الماضية لا يريد حكومةً تستند إلى أغلبية برلمانية، ومعارضة فاعلة على مستوى الرقابة، لأنّها خيار لا يرغب به من يعتاش على الأزمات ويريد الابقاء على حكومات هشّة وضعيفة ومهتمها الرئيسة توزيع المغانم.
اعتقدُ أنَّ مرحلة ما بعد انتخابات تشرين يجب أن تكون نقطة فاصلة في مشروع استعادة الدولة، فإمّا أن تتنصر الدولة أو تكون الغلبةُ لِقوى اللادولة. فجميع المؤشرات السياسية والأمنية والاقتصادية لم تعد تتقبل البقاء ضمن دائرة انصاف الحلول، فإمّا أن يتم إعلان وفاة الدولة بعد أن بقيت تصارع طوال ثمان عشر عاماً، أو التوجّه نحو إعطاء جرعة إنعاش لها لِلبدء باستعادتها، فالدولةُ والنظام السياسي لم يعد مِن الممكن بقائهما ساحةً للصراع بين مافيات السياسية ومافيات السلاح، ودولة أحزاب ودولة مليشيات. لا بدَّ مِن وضع نهاية لثنائية تقاسم السلطة بين أصحاب السلاح والنفوذ السياسي على أساس الصفقات التي تكون بعيدة عمّا تفرزه نتائج الانتخابات.