بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم- أواخر عام 2020 الماضي، وتحديداً في الثلاثين من كانون الأول(ديسمبر) نشرت مقالاً عنوانه “كي لا يخسر الجميع في سوريا”، بحثت فيه عن الحلول التي قد تضمن أن تكون كل الأطراف الجديرة رابحة في سوريا، ووجدت أن الأمر يتطلب «استثمار رأسمال سياسي لا يقل من حيث القيمة عما هو مطلوب لإعادة الإعمار»، وقلت صراحة أنه «ليس من دولة تستطيع التصدي لدور وساطة كهذا باقتدار كدولة الإمارات العربية المتحدة». واليوم تخطو دولة الإمارات بالفعل خطوة بالغة الأهمية في هذا الاتجاه، وذلك بزيارة وزير خارجيتها سمو الشيخ عبد الله بن زياد يوم الثلثاء 9 تشرين الثاني(نوڤمبر) للعاصمة السورية دمشق واجتماعه هناك مع الرئيس بشار الأسد.
زيارة هي الأولى من نوعها، يقوم بها مسؤول عربي على هذا المستوى، منذ بداية الأزمة في سوريا عام 2011 واندلاع شرارة الحرب التي مازالت –إلى حد ما– مستمرة هناك. تلك الحرب الوحشية متعددة الأوجه التي أودت بحياة مئات الآلاف، وأجبرت الملايين على ترك منازلهم، ودمرت قسماً كبيراً من البنية التحتية لسوريا، وأدت إلى انهيار كبير في اقتصادها وتراجع هائل في سبل عيش السوريين.
قالت وكالة أنباء الإمارات الرسمية “وام” إن وزير الخارجية “نقل إلى الرئيس الأسد تحيات أصحاب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي والشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي العهد أمير أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، وتمنياتهم لمزيد من الاستقرار والتقدم والازدهار في سوريا». و «من جانبه، أكد سمو الشيخ عبد الله حرص دولة الإمارات على ضمان أمن واستقرار ووحدة سوريا، ودعمها لكافة الجهود المبذولة لإنهاء الأزمة السورية وترسيخ الاستقرار في البلاد وتلبية تطلعات الشعب السوري نحو التنمية والتقدم والازدهار».
أما وكالة الأنباء السورية “سانا” فقد نقلت عن الرئيس الأسد تأكيده على العلاقات الأخوية الوثيقة التي تجمع بين سوريا والإمارات العربية المتحدة منذ أيام الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وتنويهه بالمواقف الموضوعية والصائبة التي تتخذها الإمارات، وتشديده على أن الإمارات وقفت دائماً إلى جانب الشعب السوري.
ورغم أنها الأولى من نوعها، لم تكن هذه الزيارة هي أول بشائر تطبيع العلاقات بين البلدين، أو حتى علاقات سوريا مع العالم العربي، بل جاءت تتويجاً لمجموعة من الخطوات السابقة التي بدأتها الإمارات ذاتها في كانون الأول(ديسمبر) 2018 عندما أعادت فتح سفارتها في دمشق. إلا أن التسارع في هذه الخطوات بلغ أوجه في الشهرين الماضيين، ففي مطلع شهر تشرين الأول(أكتوبر) الماضي، اتصل الأسد بالعاهل الأردني عبد الله الثاني للمرة الأولى منذ بدء الصراع في سورية. كما أعاد البلدان فتح معبر جابر –نصيب الحدودي الرئيسي بينهما؛ وفي العشرين من الشهر نفسه، بحث الأسد مع محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، في اتصال هاتفي العلاقات الثنائية وسبل تعزيز المصالح المشتركة للشعبين. ناهيك عن خطوات من قبيل مشاركة سوريا في معرض إكسبو الدولي الذي تستضيفه دبي بالإمارات هذا العام، والاجتماع بين وزيري نفط البلدين كدليل على استمرار التعاون الاقتصادي؛ أو اللقاء الذي جمع وزير الخارجية المصري سامح شكري بنظيره السوري فيصل المقداد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي.. وغيرها من الخطوات التي تؤشر إلى أن الصف العربي عائد إلى التوحد قريباً.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال ألا عوائق ما تزال تعترض التطبيع الكامل لعلاقات سوريا العربية، أولها وأبرزها وأشدها تأثيراً يأتي من واشنطن التي سارعت بعد الزيارة إلى إعلان “امتعاضها” وذلك على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، الذي قال في مؤتمر صحافي: «لن نقوم بتطبيع أو ترقية علاقاتنا الدبلوماسية مع نظام الأسد، ولا ندعم تطبيع أو ترقية علاقات الدول الأخرى … نتشارك مع العديد من شركائنا الاعتقاد بأن الاستقرار في سوريا والمنطقة الكبرى لا يمكن تحقيقه إلا من خلال عملية سياسية تمثل إرادة جميع السوريين». وتابع فأضاف: «إن الولايات المتحدة لا تزال تقيم أفضل طريقة لدفع آفاق تسوية سياسية في سوريا على النحو المحدد في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254».
كذلك قال برايس إن وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين كان قد سجل رفض إدارته للزيارة في وقت سابق خلال اجتماع مع الشيخ عبد الله في أوروبا، مشيراً إلى أن توسلات بلينكن قد باءت بالفشل. كما نُقل عن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إنها تركز حالياً على الإغاثة الإنسانية لسوريا.
تظهر الموقف والتصريحات غير الحاسمة الصادرة عن إدارة بايدن وعن الناطقين باسمها أن الولايات المتحدة تواجه “معضلة حقيقية” في تعاملها مع الملف السوري، فهم ما زلوا يريدون الظهور بمظهر الرافض للأسد، والمتمسك بخيار “التغيير السياسي” في سوريا، مستندين في ذلك إلى 10 سنوات من الافتراضات قصيرة النظر والتحليلات الخاطئة للأحداث وللتطورات وللأمر الواقع، والاعتقاد المتعجرف بأن الأسد قاب قوسين أو أدنى من السقوط، ويبدو أن واشنطن قد تسلقت الشجرة عالياً، وبات النزول عنها أمراً صعباً، بدون أن تفقد القوة الأكبر في العالم كثيراً من “ماء وجهها”.
في الوقت ذاته، لدى الولايات المتحدة جملة من الأهداف والمصالح تحتاج إلى تحقيقها في سوريا، وفي الشرق الأوسط الأوسع، وتوافق لذلك ضمنياً على استثناء دول جوار سورية من العقوبات، وكذلك الأمر بالنسبة للمبادرات الدبلوماسية العربية الأخيرة، ليبقى السؤال هنا: كم من الوقت ستحتاج الإدارة الأميركية لتدرك أن الاعتراف بالأخطاء وتغيير المواقف بات أمراً لا مفر منه، وأن كل يوم تتأخر فيه عن القيام بهذه الخطوة، هو إطالة في أمد معاناة السوريين، فقانون “قيصر” الذي يفرض عقوبات صارمة على قطاعات مهمة من الاقتصاد السوري ما زال قائماً، ويشكل مع التهديدات بالعقوبات التي يفرضها الكونغرس، رادعاً كبيراً أمام الشركات العربية والأجنبية التي تتطلع للقيام بأعمال تجارية في سوريا، الأمر الذي يؤجل أي شكل من أشكال التعافي التي قد يشهدها الاقتصاد السوري، ومعه سبل عيش السوريين.
هذه المرونة التي مازالت الولايات المتحدة تخفيها، تظهر واضحة لدى دولة الإمارات التي برزت كوسيط قوي رئيسي في المنطقة التي تمزقها الأزمات، فلم توفر جهداً لرأب الصدوع وإصلاح العلاقات، حتى مع الأعداء التقليديين. فقد قامت أبوظبي بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وسعت أيضًا إلى إصلاح العلاقات الدبلوماسية المتوترة مع إيران. ولذلك من الطبيعي أن تفتح اليوم مساراً دبلوماسياً جديداً مع الأشقاء في دمشق لإعادة سوريا إلى النظام السياسي العربي. لقد أدركت الإمارات ومعها عدة دول عربية (كمصر والأردن) أن المقاربة العربية للأزمة السورية لم تكن دقيقة، ما سمح لدول المنطقة الأخرى بالانخراط في الشأن السوري وسط غياب صوت عربي وازن، الأمر الذي فتح المجال واسعاً لتغلغل الإرهاب وانتشار الفوضى. ومن البديهي أن المزيد من الوجود العربي في سوريا سيعني بلا شك وجوداً إقليمياً أقل، فهو سيمنح دمشق خياراً لم تكن تمتلكه في السابق.
تحاول دولة الإمارات بوضوح قيادة عمل عربي مشترك، وهذا أمر يدعو إلى التفاؤل. تفاؤلٌ يشاركني فيه كثير من العرب، وإن لم يعلنوا ذلك صراحة، وكثير من السوريين أيضاً خاصة أولئك الذين ما زالوا في سوريا، ولي بينهم أصدقاء كثر، نقلوا إليّ احتفاء الشارع السوري بزيارة سمو الشيخ عبدالله لبلادهم، وأكدوا أن شيئاً من الارتياح ساد الداخل السوري نتيجة هذه اللقاء. تظهر ردود الفعل المرحبة هذه أملاً لدى السوريين بأن أزمتهم لن تستمر إلى الأبد، وأنهم ليسوا وحيدين، وأن حاضنتهم العربية لم تتخل عنهم تماماً، وأن واقعهم المضني، سيتغير غداً لا محالة. واليوم الكل ينتظر القمة العربية في الجزائر، المزمع عقدها في شهر آذار(مارس) من العام القادم، والكل يتساءل هل سيظل كرسي سوريا شاغراً، أم ستعود هذه الدولة العربية المهمة لتلعب دورها الإقليمي والدولي؟ لتثبت الدول العربية أنها قادرة من خلال التشاور والتنسيق فيما بينها على تحقيق تطلعات شعوبها وإرادتهم بعيداً عن أي تدخلات خارجية.