بقلم: حسن إسميك – العرب اللندنية
الشرق اليوم- بعد تاريخ طويل حافل في خدمة السلطة السياسية والدعاية لها والحديث بلسانها ونشر مفاهيمها، يحاول الإعلام العربي اليوم التسلل من شقوق جدار “المحرّم” و”الممنوع” نحو فضاء جديد يقيم فيه أسس سلطة جديدة خاصة به، مستفيداً من نِعَم التكنولوجيا الحديثة التي فتحت ذراعيها بكرم، وأتاحت المجال لمضاعفة عدد الصحف والدوريات العربية بعد عام 2000، لتلعب المدونات العربية دوراً مهماً في الدفع نحو التغيير وزيادة الوعي السياسي بعيداً عن عين الرقيب وبطش السلطة، موجدة شكلاً جديداً من الصحافة البديلة.
لم يتبلور هذا الشكل الجديد من الصحافة بصورة نهائية وما زال يعاني وبمستويات عالية من التذبذب وعدم الاتساق لا توحي بقدرته على الصمود طويلاً، فالانتقال الذي تم دون “ضوابط” ما زال يحول دون تحديد نموذج واضح للإعلام العربي: هل تخلّص حقاً من عقال السلطات وبدأ يستعيد دوره في نقدها والضغط عليها؟ أم أنه لا يزال يترنح تحت وطأة الاستقطاب الشديد، والولاءات السياسية الخاضعة لاعتبارات مختلفة؟ ليست الإجابة هنا بالأمر السهل في ظلّ الفوضى التي نشهدها في عالم الإعلام، وما زلنا لا ندري هل ما يمر به إعلامنا هو حقاً “مخاض” عسير أم “احتضارٌ” لا قيامة بعده!
استغلال الثورة الرقمية
غيرت الثورة الرقمية وحرية انتقال المعلومات الأساس الذي تقوم عليه نظرية الإعلام: مبدأ “التلقي الشاقولي”، من المرسل إلى المستقبل، ليصير دائرياً حيث الكلُّ مرسلٌ والكلُّ متلقٍ، ورغم أن الدول تتساوى اليوم أمام ما أتاحه الفضاء الإلكتروني من دفق المعلومات والأخبار، غير أن مخرجات هذا التحرر الإعلامي جاءت مختلفة بحسب تجربة كل بلد وقوانينه ومقدار الحرية الفكرية والتعبيرية المتاحة فيه.
جاء الانتقال أكثر سلاسة في الليبراليات الغربية بالعموم، والمعتادة أصلاً على مستويات أعلى من حرية التعبير. أما البلدان التي ينخفض فيها سقف الحريات فقد كانت الفوضى نصيبها، إذ وجدت السلطات التي اعتادت على تسخير الإعلام بالترغيب أو الترهيب في خدمة أجنداتها وتوجهاتها أنها تفقد السيطرة على وسيلة من أهم وسائل التأثير في الرأي العام وصناعته. ما يعني الانتقال من حالة “إعلام السلطة” إلى حالة “سلطة الإعلام” والتي تعني في ما تعنيه أن تقوم هذه الوسائل بتشكيل بنى مجتمعية جديدة قد لا تناسب مصالح السلطات الحاكمة، بل وتهدد وجودها.
إن وصول المعلومات بهذه السرعة والسهولة إلى المتلّقي وضع السلطات أمام تحدٍّ لا تقدر بالقمع وحده على مواجهته، رغم أنها لم تدخر وسيلة في ذلك! من هنا كان لا بد لها أن تشحذ أسلحتها إعلامياً وقانونياً لمحاولة احتواء الموقف والخروج بأقلّ الخسائر الممكنة في انتظار إيجاد وسيلة لتطويع ما يمكن أن أسميه “الحالة الجديدة”، الأمر الذي ضاعف حالة الفوضى الإعلامية.
أما على المقلب الآخر، فلا يزال من غير الممكن الجزم ما إذا كانت هذه “الحرية” التي حصل عليها الإعلام تعمل بالفعل في خدمة الحقيقة، أم أن السلطة التي استحوذ عليها لم تكن أكثر من سلطة “الفوضى” التي خلقتها “الحالة الجديدة” وما نتج عنها من “طفرات” إعلامية، سلبية بمعظمها، تتمثل بمواقع وأفراد يفتقرون إلى الحرفية ولا يلتزمون أدنى معايير المهنية والمصداقية في العمل الإعلامي، ومع ذلك فهم قادرون على الوصول إلى المتلقي دون رقيب أو حسيب بكل ما يريدون ضخه وإيصاله دون أي اعتبار لنتائج ذلك.
عربياً، تظهر ارتدادات ما يسمى “ثورات الربيع العربي” أن الفوضى الإعلامية هي سيدة الموقف، فقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي المجال أمام أي عابر في منطقة تشهد حدثاً ما، أن يطلق على نفسه لقب “مراسل” أو حتى “إعلامي”، وأن يصير له متابعون يتأثرون بما ينقله دون النظر إلى المصداقية أو التوجه الشخصي لصاحب الخبر، ودون الحاجة إلى وسيلة إعلامية معروفة أو حتى موقع مرخّص.
أسهمت هذه السهولة والسرعة في الحصول على الخبر خلال دقائق في تراجع دور الوسائل الإعلامية التقليدية وحتى مواقعها الإلكترونية التي تحتاج عادة إلى وقت حتى تحصل على مصدر موثوق أو تصل إلى موقع الحدث، ما أدخل الجميع في حرب سرعة نقل الخبر أو المعلومة، وأدى إلى تراجع دور المهنية والشفافية إلا في حالات نادرة، ناهيك عن أن هذا “الإعلام” غير المضبوط يقوم بطبيعته على إذكاء الغرائز والانفعالات وإثارة ردود فعل غير محسوبة ولا موضوعية، وهذا معاكس تماماً لما نحتاجه في بلادنا، أي الحقيقة الواضحة والصوت الحر الذي يعكس رغباتنا وتطلعاتنا في بناء أوطاننا ودولنا بعيداً عن العنف والإرهاب والتجييش والتحريض.لقد كانت تأثيرات “فوضى الإعلام” في العالم العربي أشد من مثيلاتها في أمكان أخرى مختلفة، الأمر الذي يعود في الغالب إلى أسباب من قبيل اعتياد شريحة واسعة من الشعوب العربية، نتيجة الجهل أو التجهيل، على تلقي الخبر كما هو بلا أي محاكمة تميز الغث من السمين في المحتوى، ما يجعل هذه الشعوب أسرع انقياداً خلف من يدّعون الدفاع عن حقوقها، دون التحقق من غاياتهم ومآربهم. يدعم هذا الجهل غياب وجود قادة حقيقيين للرأي العام في معظم الدول العربية مخلصين للحقيقة ولا يخافون في الحق لومة لائم، أو أصحاب آراء موضوعية ومهنية لا تعتمد خطاباً متعالياً أو تحريضياً، وغير مرتبطين بجهات وأجندات خاصة.
إلى جانب ذلك، فقد تحولت مجموعة من الوسائل الإعلامية صاحبة التاريخ العريق، في ظلِّ الاستقطاب الذي فرضه “الربيع العربي” وما تلاه، إلى مجرد أدوات تخدم أجندات معينة، بعضها ليس عربياً حتى، بعيدة عن لسان حال الشعب وعن تطلعاته. كذلك بقيت مجموعة أخرى من هذه المنافذ واجهةً للأنظمة السلطوية تعمل في الدعاية أكثر من عملها في الإعلام، وتوغل في الابتعاد عن مطالب الناس والشارع وعن وظيفتها الأساسية، ففقدت مصداقيتها، خاصة خلال العقد الفائت وما تخلله من اختلاط في المفاهيم.
كما لم تواكب وسائل إعلام عربية المتطلبات الراهنة للإعلام اليوم، ولم تستحق بعد صفة “المؤسسة الإعلامية”، إذ لا تزال تعاني من سوء في الإدارة أو التنظيم وضعف تأهيل الكادر البشري وافتقاره إلى المهنية والحرفية، ولا يزال معظمها تابعاً لجهة أو حزب، وتقوم استراتيجيته على التعبئة السياسية أو التسطيح وإفراغ القضايا المهمة من محتواها الحقيقي.
لم تسمح السلطات الشمولية التي حكمت معظم الدول العربية منذ خمسينات القرن الماضي ببناء “مؤسسات إعلامية” حقة، ولم تكن الوسائل الإعلامية يوماً سوى أداة في يدها، وهذا أحد الأسباب التي جعلت للإعلام الحر الناشئ اليد الطولى في سقوط بعض هذه الأنظمة منذ عشر سنوات، وخلق الفوضى في بعضها الآخر.
لكنّ هذه الوسائل أيضاً لم تنجح في لعب دور مساعد لاستقرار تلك الدول بعد أزماتها العاصفة، إذ لم تستطع الانفصال عن بيئتها المستقطَبة، وبقيت رهينة المد والجزر، إلى جانب خضوعها لقوانين إعلام وضعتها السلطات بدعوى التطوير وتوسيع مناخ حرية التعبير والشفافية، ولم تكن تلك العبارات أكثر من حبر على ورق.
تنظيم الإعلام
يُطلق على الإعلام اسم “السلطة الرابعة”، وما قد يجهله البعض أن هذه التسمية جاءت في الأصل من بريطانيا، حيث ينقل المؤرخ الإنجليزي توماس كارلايل عن المفكر الأيرلندي إدموند بيرك قوله “تجتمع هنا تحت سقف البرلمان ثلاث سلطات، لكن في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهمّ منكم جميعاً”.
فسرها البعض على أنها الرابعة بعد الملك ومجلس اللوردات ومجلس العموم، في حين يرى آخرون أنها الرابعة بالنسبة إلى الركائز الثلاث للمملكة في المفهوم الأوروبي التقليدي: رجال الدين والنبلاء والعامة. لقد دفع حضور الصحافة في البرلمان البريطاني برئيسه إدوارد فيتزروي لاحقاً للإصرار على حضور الإعلام جلسات البرلمان أثناء الحرب العالمية الثانية، رغم أن ونستون تشرشل أرادها بعيدة عن أعين الصحافة.
لذلك فعندما أطالب، وغيري كثر من المشتغلين بالصحافة والإعلام، بضبط الفوضى الإعلامية الحاصلة اليوم لا أعني بذلك على الإطلاق تقييد الحريات وقمع الآراء كما يحدث في بعض الدول العربية، حيث أشار تقرير نشره الاتحاد الدولي للصحافيين في يناير 2020 إلى أن القيود التي تفرضها بعض الدول العربية ما زالت تشكل حائلاً دون حرية التعبير، سواء أكانت حجباً لمواقع إلكترونية ومواقع تواصل اجتماعي، أو ملاحقة لصحافيين وإعلاميين.
لقد جاء في التقرير أيضاً أن الدول العربية تفتقر إلى وجود قوانين خاصة بتنظيم الإعلام الرقمي، وإن كانت حكومات 13 دولة قد أصدرت قوانين لمكافحة الجرائم الإلكترونية بين عامي 2006 و2018، لكنها بقيت غير قادرة على ضبط المحتوى الذي يدار من الخارج رغم ذلك، فلجأ بعضها إلى فرض عقوبات على من يتابعها أو يشارك ذلك المحتوى من مواطنيها.
غيرت الثورة الرقمية وحرية انتقال المعلومات الأساس الذي تقوم عليه نظرية الإعلام: مبدأ “التلقي الشاقولي”، من المرسل إلى المستقبل، ليصير دائرياً حيث الكلُّ مرسلٌ والكلُّ متلقٍ
إذن، ما الذي نحتاجه حقاً إذا افترضنا طبعاً أن زمن “إعلام السلطة” قد انتهى، لكي تكون الفوضى الحاصلة مجرد مرحلة انتقالية نصل بعدها إلى حالة “سلطة الإعلام”؟ الإجابة ليست معقدة للغاية، فإعلامنا يحتاج بالعموم تصويباً وتنظيماً من الداخل والخارج، يبدأ من توظيف أشخاص مؤمنين بدور الإعلام، يتمتعون بالمهنية والحيادية، يقتربون من قضايا جماهيرهم ويمثلونهم، ويمتلكون المهارات الضرورية في التواصل مع الجمهور، ويتمتعون بنوع من الحصانة كجزء من تعزيز استقلالية الإعلام، والابتعاد عن فرض القيود عليه، ووضع قوانين تعزز دوره وعمله. كما يتوجب على وسائل الإعلام تطوير قدراتها الرقمية وتعزيز ثقافة الإبداع والابتكار الإعلامي بالعموم.
أعي تماماً أن “الإعلام الحيادي” هو نوع من الخرافة، فلكل وسيلة إعلامية أجنداتها واستراتيجياتها، وهذا حق، أما ما لا يحق للإعلام فعله فهو الارتهان التام لجهة أو سلطة ما، لأنه عندها سيفقد موضوعيته ومصداقيته وموثوقيته، وهذه الثلاثية هي رأس المال الأهم في الصحافة وفي العمل الإعلامي كله.