بقلم: عبدالله السويجي – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – مع اقتراب حلول الذكرى الخمسين لقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تصادف الثاني من ديسمبر، يستعد كتّاب المقالات والصحفيون لإنجاز مواد إعلامية حول المناسبة، وغالباً ما ستتحدث عن الإنجازات التي تحققت خلال خمسة عقود من الزمن، الإنجازات العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والقانونية والثقافية والتعليمية والطبية والصحية، والإنجازات في البنية التحتية، وهذا أمر جيد ومطلوب كونه يشكّل ذاكرة للأجيال الحاضرة والصاعدة، ويساهم في كتابة تاريخ ملموس ومُترجم على الأرض، بعد أن كان مجرد أفكار وتطلعات وأحلام، لكننا في حاجة إلى دراسات وبحوث أكاديمية تستخدم طرائق البحث العلمي، دراسات تبتعد عن العموميات واللغة الإنشائية، إلى التخصيص والكتابة بلغة الأرقام، إضافة إلى ذلك، نحن في حاجة إلى الكتابة عن الفكر والرؤى التي كانت أساس هذه الإنجازات وقاعدتها، وعن الاستراتيجيات التي تُرجمت إلى خطط تم تنفيذها بدقة متناهية، ووفق المعايير العالمية.
الأمر الآخر، نأمل من الباحثين أن يكون الإنسان محور الدراسات والبحوث والمقالات المحكّمة، بصفته أساس التنمية والمحرّك الرئيسي لإنجازها وتحقيق الاستدامة في مفاصلها، وأن تتم ترجمة هذه البحوث والدراسات إلى اللغات العالمية ليعرف العالم جوهر عملية البناء، والفكر الذي استندت إليه الإمارات، فيتوقف عن النظر إلى الإمارات كدولة ثرية فقط وظفت الخبرات العالمية لبناء دولة حديثة، ويقترب من الطاقات البشرية المواطنة التي قادت البناء وأدارت مراحله المختلفة.
الأمر الآخر الذي نأمل أن يركز عليه الدارسون وكتّاب المقالات والمفكرون والمثقفون والمبدعون، هو المستقبل، يتحدثون عنه شكلاً ومضموناً، أي عمراناً وفكراً، فيستشرفون الحياة في الإمارات بعد عشرين عاماً أو بعد نصف قرن آخر، وقد تحدّث في هذا الأمر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة حين تطرّق إلى انتهاء عصر النفط بعد خمسين عاماً، والعمل على بناء مجتمع المعرفة، وتقتضي الرؤية الوصول إلى ذلك الزمن المستقبلي وقد جهزت الإمارات نفسها للمضي قدماً، وبنفس المستوى المعيشي، لممارسة حياتها من دون نفط؛ تعتمد على عقول أبنائها، وعلى التقنية المتطورة، وعلى الطاقة البديلة، على مجتمع المعرفة، أسوة بالدول المتقدمة حالياً، والتي تحيا حياة الرفاهية من دون أن تمتلك ثروات وموارد طبيعية، بل تعتمد على الإنسان في المقام الأول.
نحن في حاجة إلى النحت في الفكر المستقبلي والرؤى الاستشرافية، ومخاطبة الزمن القادم، من خلال الدراسات العلمية والثقافية، بل ومن خلال الأعمال الإبداعية من روايات وقصص وفنون تشكيلية وتصاميم معمارية مبتكرة، لنحيي لغة الحلم من جديد انطلاقاً من الأحلام المتحققة على أرض الواقع، والتي تحولت إلى بديهيات وسلوك يومي، فكم من مشروع بدأ بفكرة مبتكرة، والشواهد كثيرة على مر التاريخ.
لقد آن أوان الانطلاق بحرية من الجاهز والمتحقق والمنفّذ إلى ما سيُنجز وما سيتحقّق، فلا سقف لعجلة التطور، ولا حدود للتحسين والتغيير، ولا نهايات للفكر الإنساني وأحلامه، ولتكن الذكرى الخمسون بداية الطريق، رغم علمي أنه تم البدء فعلاً، ومنذ سنوات، وفي دوائر صنع القرار، التفكير ووضع الخطط والاستراتيجيات للمستقبل، لكنني آمل أن يبادر الدارسون والمبدعون في تجاوز البديهي والتحليق عالياً لصناعة وطن يلامس النجوم، فلكل عصر لغته، ولكل زمن مفرداته وصوره وشكله ومضمونه، والمجتمع الذي يستبق الأحداث هو المجتمع الأقدر على مواجهة التحديات، وإدارة الزمن.
لنضيء خمسين شمعة أخرى، ونسهر على استدامة ضوئها، ونحملها في قلوبنا حالمين بإمارات المستقبل، الأكثر توهّجاً واستقرارا، والأكثر جذباً وعطاء؛ «زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون».