بقلم: أحمد نظيف – النهر العربي
الشرق اليوم – شبحٌ ينتاب فرنسا: شبح اليمين الشعبوي. عناوين الأخبار والصحف كلها مشدوهة أمام صعود ممثل هذا التيار الأبرز، خلال الشهور الماضية، إيريك زيمور ، حيث لا يكاد يمر يوم هنا في باريس من دون أن نقرأ جملاً تصف هذا الصعود بخوف حيناً وتشويق في أحيانٍ أخرى، من نوع “قادم على مهل”، “يزحف في صمت”، “يكسر كل التوقعات”، يتجاوز فلان في استطلاعات الرأي ويهزم فلاناً “بالضربة القاضية”، في تعبير واضح عن اضطراب جماعي إزاء هذا المرشح، الذي تحوّل إلى ظاهرة، تخلف وراءها استقطاباً حاداً، ذلك أنه يطرح مواقف حادة لا يمكن معها مواصلة النقاش العام خارج أفق الاضطراب والتشنج.
ظاهرة زيمور تعبّر في وجه من وجوهها عن أزمة الطبقة السياسية الفرنسية التقليدية، حيث يتقاذف اليمين واليسار السلطة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في نوع من التوافقية حول خطوط عريضة لإدارة الجمهورية، من خلال إدارة المقايضة الطبقية مع الطبقة الوسطى الفرنسية السائدة اجتماعياً، إلا أن هذه المقايضة لم تعد تلبي طموحات هذه الطبقة الكبيرة منذ سنوات، ولذلك اعتبارات تتعلق بالظرف الدولي، الذي أدى إلى تقهقر الدور الفرنسي دولياً وما خلفه من تراجع اقتصادي أيضاً، وأيضاً بالوضع المحلي، إذ ضاقت هذه الطبقة ذرعاً بنمط إعادة إنتاج النخب وأصبحت تبحث لها عن منصات سياسية جديدة تعبر بها عن نفسها بعيداً من يسار الوسط ويمين الوسط، لأن هذه الطبقة الحاكمة، وعلى رغم تناقضاتها الداخلية العديدة، تحوّلت خلال العقدين الماضيين إلى نخبة مغلقة تتقاسم النفوذ والثروة والسلطة.
هذه الأزمة الوجودية التي تعيشها الطبقة الفرنسية الحاكمة تكشف عن تحولات مقبلة، ستطاول تشكيلات النخب الفرنسية. وفي وقت يتواصل الانهيار المديد لهذه الطبقة لا يبرز في الأفق أي بديل لها حتى الآن، أي أننا نعيش في ذلك الحيّز الانتقالي من التحولات، والذي يسميه غرامشي بالعوارض المرضية، بين القديم الذي يحتضر، والجديد الذي لم يولد بعد.
على رغم الطابع العنصري لمواقف زيمور، فإن بعض مقولاته ومواقفه تبدو مضحكة في بعض الأحيان، ذلك أنه يعتبر نفسه مثلاً امتداداً لبونابرت والجنرال ديغول. لكن ما يثيره من ضحك لدى النخب ينقلب إعجاباً لدى العامة، فالرجل لا يريد حيازة إعجاب النخب التي يصارعها، بل يريد صوت المواطن العادي، فيذهب مباشرة إلى دغدغة مشاعره الوطنية، نحو ذلك الركن القصي في الذاكرة الجمعية الذي يعلي من شأن فرنسا العظمى… فرنسا التاريخية، وهنا تكمن قوة زيمور في شعبويته البسيطة والماكرة.
ومع ذلك، يجب أن يؤخذ زيمور على محمل الجد، ليس في شخصه، ولكن باعتباره عرضاً يكشف عن وجود مشكل ما في المجتمع الأوروبي، وما وراءه العالم الغربي. ينزلق زيمور إلى شقوق النظام السياسي الذي يرى انهيار الانقسام الكلاسيكي بين اليمين واليسار لصالح صعود التطرف اليميني، من خلال تضخيم المخاطر الوهمية، حيث يتحول المهاجر، الذي لا يمثل في مجموع ما يمثل داخل المجتمع إلا نسبة قليلة جداً، إلى خطر كبير يهدد المجتمع. ولحن زمور المفضل الذي يريد العزف عليه هو “الإسلاموية”، في عود تاريخي لما حدث في ثلاثينات القرن الماضي عندما استسلم قطاع واسع من المجتمع الأوروبي لصعود الفاشية في أوروبا، باعتبارها أهون الشرين وأفضل من التمدد الشيوعي الآتي على مهل بعد انتصار ثورة 1917 في موسكو، مستفيداً من مناخ عام لا يزال يهيمن عليه ثقل الهجمات الإرهابية، وهو بفضل هذا “العدو المتخيل” ينجح كل يوم في محو الانقسامات بين اليمين المتطرف واليمين، وقد تجلى ذلك في نجاحه باستمالة قطاع واسع من جمهور يمين الوسط إلى معسكره، مستفيداً من دعم واضح لبعض المؤسسات الإعلامية، فعلى رغم إدانته القضائية بالتحريض على الكراهية، لا يزال إريك زيمور يحتل مكانة مهمة في وسائل الإعلام.
ورغم شيوع هذه الظاهرة الطارئة، إلا أن الأبحاث والدراسات حولها لا تزال قليلة. وهنا لا بد من الإشارة إلى كتاب جيرار نويريل “السم في القلم: إدوارد درومون وإريك زيمور والجانب المظلم للجمهورية”، والذي فكك آليات النجاح التي اعتمدها اليمينيون الشعبويون. ومن أجل فهم جوهر خطابهم في شكل أفضل ولتحليل التربة التي تنتشر فيها هذه الأيديولوجيات، حاول نويريل العمل على منهج تاريخي مقارن لمقارنة مسارات إدوارد درومون، أحد رموز اليمين الشعبوي في أواخر القرن التاسع عشر والأب الروحي لمعاداة السامية في فرنسا إريك زيمور. ومن دون أن ينكر خلافاتهم، يسلط الضوء على النقاط المشتركة. في مساراتهم الشخصية والمهنية أولاً، ولكن أيضاً في بناء مواقعهم وطرقهم لضمان نشر أفكارهم عبر وسائل الإعلام الشعبية، من أجل الشروع في التفكير في كيفية مواجهة الديماغوجية الشعبوية، كما قام بتشريح قواعد خطاب هويتهم، لافتاً إلى تكتيك اللجوء المنهجي إلى “عدو داخلي” متخيل – الأمر الذي من شأنه أن يثير انحدار فرنسا برضا النخب. كما انتقد نويريل أيضاً القراءة الخيالية لتاريخ فرنسا محذراً من الآثار الخطابية التي تهدف إلى تشويه سمعة أي نقد. ويبدو لي هذا الكتاب محفزاً لفك التشفير لرموز إريك زيمور وإلى التفكير في طرق جديدة لمكافحة السم الذي ينتشر في قالب فكري وثقافي، وأيضاً لمكافحة الخطب الرجعية.
لكن السؤال المطروح اليوم، والمقلق لدى قطاع واسع من الفرنسيين، هل يمكن لإيريك زمور أن يفوز بالانتخابات ويصل إلى قصر الإليزيه؟ يبدو من الصعب ذلك أو شبه مستحيل في السنة 2022، لكن الخطير في الأمر، أن ذلك يمكن أن يحدث خلال السنوات المقبلة، مع زمور أو في نسخ أخرى منه، إذا ما تواصل هذا الانحدار نحو التطبيع مع الأفكار العنصرية داخل المجتمعات الأوروبية، ذلك أن 15 في المئة من الفرنسيين اليوم يؤيدون زيمور، وهي نسبة كبيرة تقارب حوالى 10 ملايين فرنسي.