بقلم: جمعة بوكليب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – مَن نُصدق في المعركة السياسية الدائرة بين باريس ولندن، المتعلقة بحقوق صيد السمك في المياه الإقليمية البريطانية؟ ومن جهة أخرى، مَن أولى بالمصداقية: لندن أم الاتحاد الأوروبي، في الخلاف الدائر بينهما حول انعكاسات تطبيق اتفاق الخروج البريطاني من الاتحاد على السلام في شمال آيرلندا؟ المفاوضات الجارية على المحورين، وبادعاء جميع الأطراف، انزلقت سريعاً نحو طريق معتمة وبلا مخارج حتى الآن. والجميع يهددون، في الوقت نفسه، باللجوء إلى اتخاذ إجراءات حاسمة.
المفاوضون البريطانيون يطالبون نظراءهم الفرنسيين بتحكيم العقل. وبدلاً من لجوء حكومة باريس إلى تنفيذ تهديدات غير متناسبة ولا مقبولة، مثل قطع الكهرباء عن بعض الجزر البريطانية في القنال، وتعطيل إجراءات مرور شاحنات البضائع من وإلى بريطانيا في الموانئ الفرنسية وغيرها من إجراءات، نبهوا حكومة باريس إلى جدوى الالتزام بتطبيق ما تم الاتفاق عليه من بنود، ذات صلة بحقوق صيد السمك، في اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي. وعلى المحور الآخر من المعركة، يطالب مفاوضو بروكسل نظراءهم البريطانيين بضرورة الامتثال لبنود اتفاق الخروج من بريكست الموقع عليه من الجانبين، فيما يخص وضع شمال آيرلندا جُمركياً.
صيادو الأسماك الفرنسيون يراقبون بتوتر ما ستسفر عنه المفاوضات بين حكومتهم وحكومة لندن، وصبرهم على وشك النفاد. والرئيس الفرنسي ماكرون يقود المعركة، من مقره في قصر الإليزيه، وعيناه على الانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر أبريل (نيسان) 2022، في حين أن البريطانيين يرون أن موقفهم القانوني لا غبار عليه، وأن منح رخص الصيد للصيادين الفرنسيين لن يتم إلا لقاء تقديمهم ما يثبت قيامهم بالصيد في المياه البحرية البريطانية، لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات سابقة لاتفاق «بريكست». الحكومة الفرنسية ليس في مقدورها سياسياً الخروج من هذا المولد بلا حمص، وما زالت تلوّح عالياً بعصا التهديد، علماً بأن التقارير الإعلامية تؤكد أن القيمة السنوية للمحصول السمكي المتخاصم حوله لا تتجاوز 7 ملايين جنيه إسترليني.
وجاهة الموقف القانوني للجانب البريطاني في المعركة مع باريس، تقابلها من جهة أخرى وجاهة الموقف القانوني لبروكسل حول الموقف من وضع شمال آيرلندا، أي أن الالتزام القانوني الذي تطالب به لندن باريس، تتنصل منه في المعركة مع بروكسل، وترفع عصا التهديد بلجوئها إلى تفعيل المادة 16 من اتفاق «بريكست»، وبالتالي تعليقه أحادياً، وفتح الأبواب أمام بداية حرب تجارية. اكتشف البريطانيون أن تشددهم في المفاوضات مع بروكسل مفيد لهم ومثمر. واكتشفت فرنسا أن تشددها مع البريطانيين سيكسبها الجولة.
وفي وضع مشابه للتوتر في موقف صيادي السمك الفرنسيين، يتابع قادة الأحزاب الاتحادية البروتستانتية الموالية لبريطانيا الموقف من بلفاست مترقبين ما ستسفر عنه المفاوضات، ورافعين عصا التهديد بتمزيق اتفاق السلام في الإقليم، ما لم تحظَ بلفاست بمعاملة مماثلة لكل المدن والمناطق البريطانية. ورئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون متخندق في لندن وراء متاريس تصلبه، وعاجز عن تقديم تنازلات سياسية لبروكسل. بوريس انتخب في ديسمبر (كانون الأول) 2019 بوعد تحقيق «بريكست». وفي الحقيقة، فعلياً وواقعياً، فإن الخروج من الاتحاد الأوروبي لم ينجز، إذ لو تحقق لما وقع ما يحدث من مماحكات وتهديدات الآن.
وفي هذا الخضم من التعقيد المتزايد، لم تبدُ حتى الآن إشارات على أي من الطريقين تشي باحتمال خروج أي من الأطراف من المعركة بلا خسائر. فرنسا ترى أن من حق صيادي سمك معدمين الظفر بقوت عيالهم، ولا يجوز أخلاقياً حرمانهم. وبريطانيا بالمقابل ترى أن توفر الشروط ضرورة لمنح تراخيص الصيد، وأن حرمان أعداد صغيرة من حق الصيد في مياهها ليس سبباً كافياً يدعو باريس للغضب، ولاتخاذ إجراءات غير مقبولة، وغير متناسبة، كالتهديد بقطع الكهرباء. وعلى الوجه الآخر من العُملة، ترى بروكسل أن لندن تعرض سمعتها للتشويه عالمياً، بحرصها على نقض اتفاق دولي، وأن لجوءها إلى التهديد بتعليق الاتفاق ليس مقبولاً، وسيؤدي إلى اشتعال حرب تجارية، ستعود عليها بعواقب وخيمة سياسياً واقتصادياً. والأولى بها أن ترضى بما قُدم لها، حتى الآن، من تنازلات أوروبية.
لكن السياسة، كما يقولون، فن الممكن. والممكن في هذا السياق للجانب البريطاني أن تكون في مكانين مختلفين في وقت واحد. أن تكون في جهة مطالباً بتنفيذ القانون، وفي الجهة الأخرى تتهرب من تنفيذه. وعموماً، يمكن القول إن الماراثون التفاوضي المتوتر بغرض الوصول إلى حلول مُرضية لجميع الأطراف، لا يبدو أنه سيبلغ غايته بسهولة، لكونه يخل بحساباتها سياسياً. ولهذا السبب تتمترس مواقفهم التفاوضية وراء بعبع الخوف من الخسارة.
دائرة مغلقة بإحكام، أحاطت بالجميع داخلها، ومن دون استعداد لدى أي منهم لكسر الجمود، خشية نقض تلك الحسابات، وخوفاً مما ستؤدي إليه الخسارة من انعكاسات سلبية. ربما لهذا السبب، أبدت الأطراف المتخاصمة استعداداً فجائياً لتمديد جولات التفاوض، على أمل إمكانية العثور، في الطريق المسدود، على ثغرة صغيرة، تعمل على نزع فتيل التوتر، وتمكنهم جميعاً من الوصول إلى اتفاق بِرُقع عديدة.