بقلم: أحمد محمود عجاج – صحيفة “عكاظ”
الشرق اليوم – تقول كل التقارير العلمية إن العالم إذا استمر على منواله سائرٌ نحو ارتفاع منسوب الاحتباس الحراري، وأنه سيشهد كوارث طبيعية نرى نذرها في حرائق الغابات، والفيضانات، وذوبان رقع جليدية في القطب الشمالي، وتنبؤات باندثار مدن بسبب ارتفاع مياه البحار، وحيوانات ونباتات. هذه الصورة مرعبة جدا، وهي ما جعل عقَّال العالم يسارعون لتجنب هذا الكابوس المخيف؛ ولذلك انعقدت عدة مؤتمرات بدءا من عام 1992، أهمها مؤتمر باريس للمناخ في عام 2015 ومؤتمر غلاسكو لعام 2021 الذي انعقد في بداية هذا الشهر، ولا تزال لجانه تعمل لوضع تفاهمات ملزمة للدول المشاركة.
إن مشكلة المناخ لا تكمن في صحة التقارير العلمية بل في عزيمة الإرادة السياسية، وكيف تتجلى في قدرة زعماء العالم على التوصل إلى اتفاقية حقيقية يؤمنون بها جميعا، ويعملون على تنفيذها، وليس التوصل إلى اتفاقية تكون بمثابة ورقة تين تتستر على خلافاتهم؛ ولكي نوضح جوهر تلك الخلافات نبدأ بأربعة عناصر:
أولا: نظرية التنمية المتأخرة، ومضمونها أن الدول الصناعية (الغرب) استفادت في الماضي من الطاقة الملوثة مثل الفحم الحجري، والنفط، وتمكنت بعامل الزمن من بناء بنية صناعية، جعلتها تدخل الآن عالم الطاقة النظيفة. بالمقابل بدأت الدول النامية الآن بالتنمية، ولذلك فإن مطالبتها بالتخلي عن الطاقة الملوثة، سيكون مكلفاً عليها، ولربما عرقل تنميتها، وجعلها متأخرة عن الركب الصناعي؛ ولكي تتمكن من السير في الطاقة النظيفة على الدول الصناعية الكبرى أن تعوضها ماليا لتبدأ رحلة الألف ميل. المشكلة هنا أن الدول الصناعية لا تحب أن تمول الدول النامية، ولا تريد أن تخلق منافسين لها بأموالها، وترى أن مواطنيها أحق بالمال من مواطني تلك الدول. كما أن هذه الدول الصناعية رغم حديثها المنمق إلا أنها لا تزال تعتمد الفحم الحجري (ألمانيا بنسبة 24 بالمائة) وبريطانيا (ستفتح منجما للفحم في المستقبل)؛ وعلى ذلك قس.
ثانيا: دول صناعية متقدمة (منافسة للمنظومة الغربية) تعتمد في اقتصادها على الفحم الحجري والنفط، وترفض أن تتخلى عن الفحم الحجري كالصين، أو عن النفط كروسيا، أو الهند، وغيرها، لأن ذلك سيجعلهم أقل تنافسية في الأسواق، ويعرض اقتصادهم للخطر، الذي سيكون المستفيد منه منافسوهم الغربيون. المشكلة هنا أن تلك الدول ترى أن الالتزام بمكافحة التغير المناخي، بالشكل المطروح، سيؤدي إلى هزيمتها اقتصاديا، وسيطرة الغرب على أسواقها. لذا فإنهم عارضوا فكرة التخلي عن الفحم الحجري أو النفط وأجلوا موعد الوصول إلى الحياد الكربوني إلى أقصى حد هو عام 2070.
ثالثا: تبعات الطاقة النظيفة على المعادلة السياسية داخل كل دولة تعمل لمكافحة التغير المناخي؛ فالالتزام بمسار التغير المناخي مكلف جدا سياسيا، ومربك اجتماعيا، وباهظ ماليا؛ فأية دولة تريد أن تسير في هذا الطريق عليها أن تفرض على مواطنيها تبعات مالية، لدعم تطوير الطاقة النظيفة وخلق بدائل أفضل؛ وسيكون بالطبع أكثر المتضررين الطبقة الوسطى والأكثر الطبقة الفقيرة وهذا مربك اجتماعيا؛ ولكي تتجنب الحكومات سخط تلك الطبقات ليس أمامها سوى خيارين: أولا، تحميل الطبقة الغنية قسطا كبيرا وهذا يحمل الطبقة على تهريب أموالها والاستثمار في أماكن أخرى، أو الامتناع عن دعم الحزب الحاكم، ودعم بديل له. ثانيا محاولة تخفيف العبء عن الطبقة الفقيرة والوسطى من خلال الاستدانة من الخارج والداخل، وهذا يوقع الحكومة في دوامة مالية أكبر، ويربكها سياسيا في أية انتخابات قادمة.
بناء على هذه المعطيات فإن مؤتمر المناخ في غلاسكو لم يجد حلولا لتلك الإشكاليات بل تخطاها مغلبا بذلك الشكل على المضمون؛ فمن ينظر للمؤتمر يرى أنه حقق تقدما هائلا بمجرد أن اجتمع هذا العدد الكبير من الزعماء في مكان واحد ليتدارسوا مصير كرتهم الأرضية. لكن بعيدا عن هذه الصورة الشكلية فإن المضمون كان شبه فارغ؛ لم يتحقق وعد رئيس الوزراء البريطاني بجمع مبلغ مائة مليار لدعم الدول الفقيرة في عملية التحول نحو الطاقة النظيفة؛ ولم تجد عملية تسريع اعتماد الحياد الكربوني إجماعا؛ كما تغيب عن الاجتماع رؤساء دول مهمة مثل الصين، وروسيا، والمملكة العربية السعودية، وهو مؤشر على خلافات في الرؤى والأهداف. فالمملكة، كمثال، لم تشكك بالاحتباس المناخي، بل وضعت تصورا مهما للطاقة النظيفة، وخصصت مليارات الريالات لتحقيق ذلك، لكنها في الوقت المناسب، نبهت إلى خطورة التعميم وعدم ملاحظة احتياجات كل دولة على حدة، وتفهم مراحل تطورها، وحاجاتها. وقد حدد السفير السعودي الأمير خالد بن بندر بن سلطان بن عبدالعزيز موقف بلاده بقوله إن التغير المناخي مشكلة عالمية تحتاج لجهد عالمي مشترك، شرط أن تراعي الظروف الاقتصادية والثقافية، وذلك لأن لكل دولة مساراً مختلفاً، وحلول متنوعة من أجل حل مشكلاتها. هذا التصريح يعكس تماما نظرية «العدل» في اعتماد المقاييس بمراعاة العناصر التاريخية والمكانية والثقافية.
إن مؤتمر غلاسكو للمناخ العالمي رغم كل الصعوبات التي واجهها لا يزال يعتبر بصيص أمل في نفق مظلم؛ فالقادة والزعماء يعون تماما مشكلة المناخ، ويدركون أيضا صعوبة الحل السريع، ويعرفون أن لكل دولة برنامجها ومصالحها، وأن إيجاد أرض مشتركة هي خشبة الخلاص. لكن الحبكة المفقودة في كل ذلك هي: كيف يمكن الاتفاق مع تعارض مصالح الدول، واختلاف مساراتها، وتطورها التكنولوجي. هذه الحبكة المفقودة جعلت كثيرين يدقون أجراس الخطر منهم على سبيل المثال رئيس أساقفة كانتربري في بريطانيا الذي اعتبر أن فشل القادة المجتمعين في غلاسكو بالتوصل إلى اتفاق ملزم سيجعلهم أسوأ من السياسيين الذين حاربوا هتلر؛ ولعل ما قالته الملكة اليزابيث في خطابها هو أفضل تحذير: كل القمم التي سبقت غلاسكو كانت جعجعة لا طحن فيها! فهل كان مؤتمر غلاسكو بلا طحن؟ إن المؤتمر كانت جعجعته طنانة، إنما طحنه قليل جدا، ومع ذلك يبقى الأمل بأنه محطة على سكة قطار طويلة طويل ستصل البشرية في نهايتها إلى المحطة الآمنة؛ هذا أمر محتم للبشرية لأن البديل لا يمكننا لسوئه أن نتخيله.