الشرق اليوم- في خضم الحرب الكلامية حول حقوق الصيد في قناة المانش، صبّ التركيز على سطر واحد في رسالة مسرّبة من رئيس الوزراء الفرنسي، جان كاستكس، إلى رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين.
تختلف ترجمات العبارة المسيئة، لكنها تؤكد للرأي العام الأوروبي أن المشاكل المرتبطة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي تتفوق على مساوئ البقاء فيه.
برأي المشككين بالوحدة الأوروبية، كان ذلك الموقف تأكيداً على انتشار الأحقاد في القارة الأوروبية، فقيل إن فرنسا تريد “معاقبة” بريطانيا لأنها اختارت الحرية، لكن عند تقييم هذا الكلام من وجهة نظر المعسكر الآخر، يتبيّن أن كاستكس كان يكرر بكل بساطة فكرة واضحة عن “بريكست”: تعكس هذه الخطة رفضاً صريحاً للتضامن الأوروبي ورهاناً على المنافع التي قد تحصدها جهة تجارية واحدة في وجه كتلة موحّدة، وسيستفيد أعضاء تلك الكتلة حتماً من فشل ذلك الرهان.
الأزمة القائمة في إيرلندا الشمالية هي أخطر من شجار بسيط على صيد السمك، لكنها تحمل أعراض المتلازمة نفسها: إنه تجسيد لنموذج “بريكست” الذي يلوّح بمبدأ السيادة المقدّس، فثمة حاجة إلى سحب جميع آثار النفوذ المؤسسي الذي يتحلى به الاتحاد الأوروبي من البر وجرفه من البحر، لكنّ هذه الصيغة تضمن تأجيج الاضطرابات على مختلف الجبهات، حيث تتأثر عادات التدفق الحر القديمة بالخلافات المرتبطة بأحدث عمليات التفتيش والمعاملات والتراخيص. ستكون المنافع المادية من تفعيل السيادة بهذه الطريقة معدومة وستتزامن مع تصاعد التكاليف المحتملة، لكنّ الاعتراف بشوائب هذا النموذج مستحيل في أوساط حزب المحافظين، وأمام هذا الوضع، يمكن التفكير بخيارَين سياسيَين:
أولاً، المبالغة في التكلم عن المنافع الوهمية لإلغاء الاتحاد الأوروبي.
ثانياً، تحويل الحقد الدولي إلى منافع سياسية محلية عبر اعتبار الخلافات العابرة لقناة المانش إثباتاً على خبث بروكسل، ثم وضع المشاكل الاقتصادية المشتقة من “بريكست” في خانة ردود الأفعال الانتقامية من جانب القارة الأوروبية.
هذه الاستراتيجية السياسية قابلة للتنفيذ، لكنها مشينة بطبيعتها وتفتقر إلى عنصر أساسي: العمل البطولي في نهاية النفق. على مر التاريخ، استعملت الحركات الثورية أعذاراً عدة لتبرير فشلها عبر لوم الجهات الخارجية، لكنها حافظت على زخمها من خلال طرح وعود مثالية مفرطة حول المستقبل، فقد ارتكزت خطة “بريكست” على المقاربة نفسها، مما يعني أن الأمراض لا تزال قائمة لكنّ المريض سبق أن أخذ العلاج المقترح. حاول جونسون أن يتمسك بموقفه الذي يعتبر خطة “بريكست” مقاربة واعدة على جميع المستويات، فتعهد في خطابه خلال مؤتمر حزبه في الشهر الماضي بإنشاء اقتصاد مبني على الأجور المرتفعة والمهارات العالية تزامناً مع وقف هجرة العمال، لكنّ هذه الوعود هي مجرّد شعارات وهمية تُستعمل في زمن الأزمات وتنجم عن الأخبار المرتبطة بنقص اليد العاملة وتفكك سلاسل الإمدادات. أكثر ما يتذكّره الناس حتى الآن هو وعد جونسون بإنجاز خطة “بريكست”، لكن هذا الإرث يتلاشى عند التطرق إلى هذه المسألة في نشرات الأخبار، ولا مفر من تكرار هذا النوع من الأنباء على مر الأيام. من المتوقع أن تؤدي مساعي تحسين السيادة إلى تأجيج الاضطرابات مع الدول المجاورة، وسرعان ما تصبح هذه الجهود إثباتاً على ضرورة بلوغ أعلى درجات السيادة، ولن تكون هذه التجربة ثورة نموذجية تنطبق عليها مقولة “الغاية تبرر الوسيلة”، إذ سبق أن تحققت الغاية المنشودة وانتهت مدة الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه، أصبحنا عالقين في مجموعة شاقة من الوسائل اللامتناهية: إنه كابوس عبثي من المفاوضات المتواصلة التي تبلغ مرحلة معينة من التوافق قبل أن تنهار وتبدأ الدوامة نفسها مجدداً، ومن الواضح أن خطة “بريكست” التي قادها جونسون حكمت على بريطانيا بعيش تجربة الانسحاب المريرة والمملة مراراً وتكراراً، لكن من دون أن يشعر أحد بالرضا لأن الانسحاب تحقق وانتهى.