بقلم: عاطف السعداوي – سكاي نيوز
الشرق اليوم– لم يعد الوضع في سوريا شأنا محليا خاصا بسوريا وحدها بقدر ما هو شأن عربي وإقليمي ودولي، في القمة العربية في دورتها الثلاثين التي انعقدت في تونس في مارس 2019، كان ملفات ومثيرا للدهشة والأسى في آن، أن تتم مناقشة البند الأول على جدول أعمالها في ظل غياب الدولة العربية المعنية بهذا البند.
وقتها كان حديث العرب وجامعتهم عن الاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، كانت هناك حالة غضب عربية امتدت من المحيط إلى الخليج تنديدا بهذا القرار الذي لاقى أيضا تنديدا ورفضا دوليا واسعا، وقتها كان طبيعيا أن يكون هذا هو البند الأول للمناقشة في القمة العربية التي انعقدت بعد صدور قرار إدارة ترامب بأيام قليلة.
وكان منطقيا أن يكون البند الأول في البيان الختامي للقمة هو رفض القرار الأميركي والتأكيد على أن قرار الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان باطل شكلا ومضمونا.
ولكن ما لم يكن طبيعيا ولا منطقيا أن يكون مقعد الدولة ذات الشأن فارغا، وربما كان حضور سوريا وقتها لهذه القمة وشغل مقعدها المغيبة عنه منذ سنوات كان سيكون أبلغ رد على القرار الأميركي، ربما وقتها لم تكن القمة في حاجة لإصدار بيان ختامي، فحضور سوريا على مقعدها الشاغر كان سيكون في حد ذاته بيانا ختاميا للقمة قبل أن تنتهي، الأغرب من ذلك أن هذه القمة (العربية) التي غابت عنها سوريا، سبقها اجتماع طارئ لمجلس الأمن (الدولي) بطلب من سوريا (العربية) لمناقشة هذا القرار الأميركي، وهو الاجتماع الذي انتهى بإدانة شركاء الولايات المتحدة الـ14 في المجلس لقرارها.
التحول الجذري في السياسة الأميركية بالمنطقة الذي بدأت بوادره بقرار الرئيس السابق دونالد ترامب في ديسمبر من عام 2018 بالانسحاب المفاجئ من منبج وشرق الفرات ترك الوضع في سوريا مفتوحا على كل الاحتمالات، وأوجد وضعا جديدا تبارى فيه المتنافسون لحصد امتيازات جديدة لا سيما مع عدم وجود اتفاق مسبق، وفي ظل وجود قوى تعتبر نفسها الخاسر الأكبر وأخرى حسبت نفسها المنتصر الوحيد من ذاك القرار المفاجئ، ترك هذا القرار فراغا كبيرا أصبح جميع الطامحين والطامعين يتنافسون على ملئه، تنافسا شمل جميع القوى المنخرطة في الصراع السوري من داخل سوريا ومن خارجها، بما فيها قوى إقليمية لديها أطماعها التوسعية في المنطقة، فسياقات الصراع في سوريا اعتبرت آنذاك أن هذا الانسحاب المفاجئ لو تم سيصب في مصلحة تركيا بالأساس؛ لما يعنيه ذلك من رفع الغطاء السياسي والحماية العسكرية عن وحدات حماية الشعب الكردية، إذ أن هذه الخطوة كانت تعني ضوء أخضر لأنقرة للتحرك بحرية على حدودها الجنوبية، علاوة على أن الرئيس التركي لم يُخفِ نواياه بتدخل عسكري في الشمال السوري، وهو الأمر الذي تم بالفعل.
فعقب انسحاب الوحدات الأميركية أطلقت تركيا في شمال سوريا هجوما عسكريا واسعا ضد وحدات حماية الشعب الكردية.
وبالنسبة لإيران كان سحب القوات الأميركية من سوريا “حلما تحوَّل إلى حقيقة”، وفتح الباب أمام مزيد من التوسع الإيراني في الشرق الأوسط.
ورغم تراجع إدارة ترامب نسبيا عن قرارها هذا تحت ضغط المؤسسة العسكرية الأميركية، إلا أن هذه المخاوف وحسابات المكسب والخسارة ما لبست أن تجددت بعد أشهر قليلة من تولي جو بايدن سدة الحكم في البيت الأبيض، عندما بدأت إدارته التلويح مجددا بانسحاب قريب من سوريا، ففي مارس الماضي أفاد مسؤولون في البيت الأبيض بمراجعتهم لوجود قوات أميركية في سوريا، الأمر الذي أثار مخاوف من أن يعيد بايدن النظر في الانتشار كجزء من تقليص أكبر للقوات الأميركية في الشرق الأوسط، والتحول المخطط له لتركيز البنتاغون على آسيا.
وفي سبتمبر الماضي تم اتخاذ خطوة عملية تمثلت بإضافة تعديلات على ميزانية وزارة الدفاع فيما يتعلق بالملف السوري، تهيئها لإمكانية الانسحاب العسكري خلال عام واحد، في ظل التوقعات أن تكون سوريا هي المحطة الثانية للانسحاب الأميركي بعد أفغانستان.
وحدهم العرب كانوا هم الغائبين عن المشهد في المرتين، تاركين الساحة لأعدائهم وخصومهم لحصد المكاسب وجني الأرباح وجمع الغنائم، لذا كان التقدير للقرار الحكيم لدولة الإمارات العربية المتحدة بإعادة فتح سفارتها في دمشق في ديسمبر من عام 2018، بعد 7 سنوات على قطع علاقاتها مع سوريا في 2011 وهي خطوة أكدت وقتها حرص حكومة الإمارات على إعادة العلاقات بين البلدين الشقيقين إلى مسارها الطبيعي، بما يعزز ويفعِّل الدور العربي في دعم استقلال وسيادة سوريا ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية، ودرء مخاطر التدخلات الإقليمية في الشأن العربي السوري.
القرار التاريخي لدولة الإمارات وقتها كان يعكس في طياته ترتيبا للبيت العربي على أسس جديدة كانت غائبة خلال السنوات السبع التي سبقته، فأمن العرب يبدأ من إدلب وشرق الفرات، واستمرار تغييب سوريا عن معادلة توازن القوة في المنطقة العربية يعني مزيدا من ضعف العرب وكشف جناح أمنهم الشرقي، وجعلهم وجعلها فريسة سهلة الابتلاع للأطماع الإقليمية المتنافسة والطامحة في مد نفوذها أبعد من حدود سوريا، ما يجعل من استمرار حالة التجاهل العربي لسوريا أشبه بالانتحار البطيء، فغياب العرب عن سوريا لن يملأه سوى أعداء العرب، فالمستفيد من هذا الغياب العربي في المقام الأول هو كل من إيران وتركيا، ومن ثم كان لا بد من إنشاء قاعدة ارتكاز عربي لحماية المنطقة من جموح نظام الملالي وجنون نظام الخليفة العثماني.
لذا كان محقا وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية حينها الدكتور أنور قرقاش حين غرّد وقتها قائلا إن “الدور العربي في سوريا أصبح أكثر ضرورة تجاه التغوّل الإقليمي الإيراني والتركي”، مشيرا إلى أن “الإمارات تسعى عبر حضورها في دمشق إلى تفعيل هذا الدور وأن تكون الخيارات العربية حاضرة، وأن تساهم إيجابا تجاه إنهاء ملف الحرب وتعزيز فرص السلام والاستقرار للشعب السوري”، مؤكدا أن القرار يأتي بعد “قراءة متأنية للتطورات، ووليد قناعة أن المرحلة القادمة تتطلب الحضور والتواصل العربي مع الملف السوري؛ حرصا على سوريا وشعبها وسيادتها ووحدة أراضيها”.
اليوم تعيد الإمارات تأكيد موقفها ورؤيتها هذه بضرورة عودة سوريا إلى محطيها العربي بزيارة وفد رفيع المستوى بقيادة وزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد إلى سوريا، في أول زيارة من نوعها منذ بدء الأزمة السورية في 2011، زيارة تاريخية بكل تأكيد هدفها كسر العزلة العربية عن دمشق والتي امتدت لعشر سنوات، وهي الزيارة التي سبقها تلقي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية اتصالا هاتفيا من الرئيس السوري بشار الأسد في أكتوبر الماضي، بحثا خلاله “علاقات البلدين الشقيقين وسبل تعزيز التعاون المشترك في مختلف المجالات لما فيه مصالحهما المتبادلة، كما تناول الاتصال تطورات الأوضاع في سوريا و منطقة الشرق الأوسط إضافة إلى مجمل القضايا والملفات ذات الاهتمام المشترك.
أخطـأ العرب عندما قاطعوا العراق بعد الاحتلال الأميركي وتركوه صيدا طريا في فم الميليشيات الإيرانية المتطرفة، ولم يفيقوا إلا على نفوذ إيراني واسع ودور تركي متنامٍ، لذا يجب أن لا يكرر العرب في سوريا خطأهم الكبير في العراق، فاستعادة سوريا العربية دورها ووظيفتها التاريخية وعدم تركها لقمة سائغة ومجالا حيويا لكل من تركيا وإيران أصبح ضرورة، وحل مشاكلها وقضاياها داخل المنظومة العربية حصريا باعتبارها المرجعية الإقليمية الرسمية صار خيارا حيويا لا غنى غنه، خاصة بعد أن استعاد نظامها سيطرته على معظم أراضيها، لذا فإن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية أصبح مطلبا ملحا لا يحتمل أي تأجيل.
هذه المرة أصبحت عودة سوريا إلى بيت العرب مطلبا عربيا يحظى بدعم كافة الأطراف العربية الفاعلة، وأصبح الجميع مهيأ لها عربيا، وكل ما أتمناه أن تكون قد زالت أميركيا أي تحفظات عرقلت وأخرت هذه الخطوة المنتظرة منذ سنوات.