بقلم: حسام ميرو – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – قد لا يجوز علمياً ومنهجياً اختصار سياق تاريخي ما بنتائجه السياسية، نظراً لوجود حقائق عديدة ومتعددة، خصوصاً تلك الحقائق المتعلقة بتاريخ الأفكار، والواقع الاقتصادي الاجتماعي المؤسس لها، لكن عند تناول مسألة بالغة الحساسية، من مثل الحقوق المدنية، فإن النتائج السياسية تغدو، ولو بطريقة نسبية وجزئية، تكثيفاً حقيقياً للتاريخ، فالنظام الدولي القائم اليوم، بتعبيراته المتعددة، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، وما يتفرّع عنها من مؤسسات، هو نظام تقوده أو تخضع له دول متباينة من حيث تطابق رؤيتها للحقوق المدنية، وهو ما يجعل الكثير من العهود والمواثيق الصادرة عن مؤسسات دولية معتبرة لا يمتلك قوة الإلزام.
يعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948، أهم مرجعية دولية للحقوق المدنية، وباعتبار الإعلان وثيقة أممية رسمية، فهو معتمد من الدول الأعضاء، لكن بين المصادقة على هذا الإعلان من هذه الدولة أو تلك وبين تطبيقه في الواقع مسافة كبيرة، هي مسافة الواقع الخاص بكل دولة من الدول، ولئن كانت معظم الدول، قد حاولت أن توائم بين مضامين مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبين موادها الدستورية، إلا أن تفسير الدساتير وتطبيقها يخضع فعلياً لطبيعة النظام السياسي في كل دولة على حدة، فالكثير من الدول لا يتضمّن نظامها السياسي فصلاً بين السلطات الثلاث، القضائية والتشريعية والتنفيذية؛ بل إن بعضها يجعل من السلطة التنفيذية السلطة الأعلى.
في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وتحديداً مع صعود القومية/ النازية في ألمانيا، ازداد النقاش الفكري والسياسي والقانوني حول علاقة السلطة بالفرد، في سياق المرجعية الليبرالية الأوروبية، فلم تكن الانتقادات الموجهة للنظام الألماني في عهد النازية بسبب نزعته التوسعية فقط، وإنما بشكل رئيسي بسبب استبداد السلطة السياسية، وانتهاكها الصارخ والواسع لحريات مواطنيها، والتي لا تزال تعد حتى يومنا هذا نموذجاً مرجعياً لانقلاب السلطة على الليبرالية والديمقراطية، وقد أفضت مجمل النقاشات إلى اعتبار الانتهاكات للحقوق المدنية مساوياً لانتهاك الكرامة الإنسانية، وهو ما يفسّر توافق واضعي الدستور الألماني ما بعد الحرب العالمية الثانية على افتتاح الدستور في مادته الأولى بعبارة «لا يجوز المساس بكرامة الإنسان، واحترامها وحمايتها من واجبات كافة سلطات الدولة».
أرادت دول أوروبا الغربية على وجه الخصوص أن تمنع أية انتكاسة إلى الوراء، فعلى الرغم من أن الليبرالية الغربية هي توأم العقلانية، فإن هذه العقلانية لم تكن كفيلة لوحدها بمنع سيناريو الحرب، وقد كانت الحاجة إلى إعادة بناء القانون بما يمنع استبداد فئة على أخرى أمراً ضرورياً وحيوياً، ومنع جعل السلطة قابلة للتمركز بشكل أساسي حول شخصية الحاكم. وفي سياق ضمان استقرار المجتمع، كان لا بد من تطوير القوانين، ووضع آليات لتنفيذها، وقد كان الفصل الحقيقي بين السلطات مدخلاً رئيسياً في هذا المسعى، وقد اعتبر الفرد بصفته المواطنية هو الأساس في العقد الاجتماعي، وبالتالي فإن ضمان حقوقه، وصونها من أي اعتداء، هو ضرورة لاستقرار الدولة والمجتمع، وأيضاً شرطاً حيوياً من شروط التنمية.
لكن التطور التاريخي/ السياسي لأوروبا، هو سمتها الخاصة، أي سمة تطور المجتمعات الرأسمالية الغربية، وتطوّر مكانتها في سوق العمل الدولي، وتطور منظومة الإنتاج، ونشوء حاجات خاصة في سياق الليبرالية، بينما معظم دول العالم في القارات الأخرى، لم تشهد مثل هذا التطوّر الرأسمالي، ولم تمر بتاريخ تطور منظومة التفكير والقيم الليبرالية، وهو ما يفسّر إلى حد بعيد عدم أولوية الحقوق المدنية بالنسبة للأنظمة السياسية في كثير من دول العالم، ويضع ممارساتها في أحيان كثيرة على النقيض من بديهية بعض الحقوق، ويجعلها نافرة ومستهجنة، خصوصاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ حيث أتاحت العولمة وشبكات الاتصال والتواصل حرية متابعة الأفكار والمعلومات.
إن مقاومة الأنظمة السياسية غير الليبرالية لتطبيق مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يتم تبريره عبر أيديولوجيات مختلفة، أو ذرائع معينة، لكن النتيجة النهائية لهذا السلوك هو منع تطور قوى المجتمع، وإعاقة الأفراد عن ممارسة أنشطتهم الطبيعية، أو ممارسة حقهم في الاشتغال بالشأن العام، وفي المحصلة كبح نمو المجتمعات، وإضعاف قدرات الدولة نفسها، في جميع المؤشرات، بما فيها مؤشرات الاقتصاد؛ إذ لا يمكن للاقتصاد أن ينمو ويتطور من دون حماية الحقوق المدنية للأفراد.