بقلم: أحمد محمود عجاج – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – عندما تسلم الرئيس الأميركي بايدن سدة الرئاسة أعلن أن أميركا عادت للعالم، وبشرنا أن الدول المستبدة ستواجهها أميركا مع حلفائها الديمقراطيين؛ قاصداً الصين وبدرجة أقل روسيا الاتحادية. وعندما سحب قواته من أفغانستان كان أكثر وضوحاً فقال إنه ضروري التفرغ لمواجهة الصين. على الضفة الأخرى، كان الرئيس الصيني يجاريه في الوضوح، فأعلن أن عصر التفرد الأميركي انتهى، وأن لا أحد يوقف صعود الصين، وأن تايوان ستعود سواء بالتفاوض أو بالقوة؛ لم يكتفِ بذلك، بل سرَّع من بناء ترساناته العسكرية، وأعلنت قيادته أنها ستضاعف سلاحها النووي، وتباهت بإطلاق صاروخ لا يمكن للمظلة الأميركية المضادة للصواريخ اكتشافه. هذا الصاروخ يعتمد على تكنولوجيا الذكاء الصناعي الذي يعترف الأميركان بتأخرهم فيه؛ فالجميع يدرك الآن أن الصين قادرة على ضرب العمق الأميركي بقوة مدمرة، وأن الأميركان قادرون على ضرب العمق الصيني بقوة مدمرة.
عودة التنافس الصيني الأميركي، وبهذا الزخم، أحبط من كان يأمل أن يؤدي انهيار الاتحاد السوفياتي إلى انتهاء عصر التهديد النووي، وسيادة السلام، لكنه وجد نفسه بالمقابل يعايش تنافساً أشد تعقيداً لأن الصين، على عكس السوفيات، رأسمالية في الجوهر واشتراكية في الشكل؛ ولأنها كما يقول المفكر، هنري كيسنجر، تنافس الولايات المتحدة، وتدخل معها في سباق بلا وجود أي خطوط تواصل يشبه ما كان سائداً إبان الصراع السوفياتي الأميركي، حيث كانت توجد لجان، واتفاقيات تكشف لكل منهما مخزونه النووي، وكذلك خريطة الوجود العسكري، لكي لا يحدث أي سوء تفاهم يؤدي إلى حرب مباشرة ينتهي معها الكون وفق نظرية التدمير النووي المتبادل.
كما أن الصين الآن قوة اقتصادية كبرى، وستتجاوز الولايات المتحدة في المستقبل إذا لم تعجل الإدارة الأميركية ومن يأتي بعدها من وضع العراقيل في وجه هذا المارد الاقتصادي الصاعد؛ وهي تتوسع عسكرياً تحت ستار تجاري من خلال مبادرة «الحزام والطريق» التي تربط الصين بقارات العالم، واستطاعت من خلال هذا الستار استئجار مرافئ بحرية في كثير من الدول المهمة منها دول أوروبية مثل اليونان، وأخرى آسيوية كانت صديقة للولايات المتحدة مثل باكستان؛ كما أن الصين من خلال غناها الاقتصادي وفرت القروض المالية بسخاء لدول عدة، ومن دون أن تفرض أي شروط على تلك الدول فيما يخص حقوق الإنسان داخل تلك الدول.
الرد الأميركي لم يكن بطيئاً بل تسارع مع إدارة بايدن من خلال مبادرات داخلية وخارجية؛ في الداخل خصصت 1.5 تريليون دولار من أجل تحديث وتطوير ترسانتها النووية، وصعدت المواجهة الفكرية بوصم الصين دولة استبدادية تنتهك يومياً حقوق الإنسان، وتعمل على تخويف جيرانها المسالمين، وخارجياً سعت إلى بناء ترسانة قوية من الغواصات بالتعاون مع بريطانيا وأستراليا لمواجهة القوة الموازية الصينية؛ وكذلك طورت تحالف «كواد» الذي يجمع الهند المنافس الخطر للصين، وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية واليابان. وعززت الولايات المتحدة السعي لعقد شراكات تجارية تهدف لعزلة الصين اقتصادياً. كما أن أميركا أعطت تعهدات لدول محيطة بالصين تشعر بالتهديد من قوة الصين بأنها ستدافع عنها في وجه أي اعتداء علاوة على تحدي الصين في جنوب بحر الصين وشرقه، فيما يخص حرية الملاحة الدولية.
إذن نحن نرى قوتين تتنافسان على زعامة العالم، حيث الولايات المتحدة تعمل على الحفاظ على النظام العالمي الذي أنشأته بعد الحرب العالمية الثانية، والصين تعمل على تغيير قواعد اللعبة، وإدخال تعديل كبير على هذا النظام العالمي، على اعتبار أنه لا يخدم مصالحها، وأنه يصبُّ في مصلحة منافسها الأميركي. هذا التنافس بدأ يغير طبيعة النظام الدولي ويجره إلى حرب باردة أكثر خطورة بكثير مما كانت أيام الاتحاد السوفياتي البائد. فنظرة سريعة على استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا، تؤكد أن الصين لم تعد في نظر الأكثرية قوة خير، بل أصبحت تمثل تهديداً لمصالح تلك الشعوب؛ وبالمقابل فإنَّ الرأي العام الصيني المؤدلج بقيادة الحزب الشيوعي الصيني يرى في أميركا، ومن معها خطراً على صعودها، وتهديداً لأمنها وسلامة أراضيها، ويعتبرون الموقف الأميركي من جزيرة تايوان دليلاً؛ ولكي يثبت الصينيون عزمهم في مواجهة التهديد الأميركي سجلت سلطات تايوان نحو اختراق مائة وخمسين طائرة المجال الجوي التايواني على مدى أربعة أيام فقط. بالمقابل أجرى الأميركيون مع خمسة من حلفائهم مناورات عسكرية على الحدود الصينية شارك فيها 17 بارجة حربية؛ فكلا الجانبين أرسلا لبعضهما رسائل واضحة.
الصورة تبدو واضحة للتنبؤ بأن شرارة الخطر تكمن في جزيرة تايوان التي تعتبرها الصين خارجة عن سلطة الدولة الأم، وتعتبرها أميركا كياناً مستقلاً؛ وتعتبر دول الجوار المتخوفة من الصين تراجع أميركا عن حماية تايوان تخلياً عن تعهداتها، وبالتالي لا تصلح أن تكون شريكاً وأنه من الأنفع لهذه الدول أن تتوصل إلى تفاهمات مع الصين قبل أن تخسر كل شيء؛ هذا الأمر لن تقبل به الولايات المتحدة الأميركية بتاتاً، ولذلك بدأت بتسليح تايوان بأسلحة متطورة، متخلية عن نظرية الغموض الاستراتيجي التي كانت ترضي الصين، لأن أميركا لم تعترف بتايوان، ولم تقل إنها ستدافع عنها، وبهذا تمكنت من التعايش مع الصين؛ لكن هذا التعايش أصبح الآن صعباً، ومعه تغيرت نظرية الغموض الاستراتيجي؛ مع هذا التغير أصبحت إمكانية الاشتباك أكثر رجحاناً. فاستناداً لنظرية «الفخ» للمؤرخ اليوناني ثيوديدس فإن الطرفين، مدفوعان بالخوف من الآخر، سيتسلحان أكثر، وينتهيان بقتال بعضهما؛ هذا الاحتمال تعززه نظرية «القومية المغالية» التي يؤمن بها الرئيس الصيني، بأن تايوان جزء من الصين وستعود خلال عهده.
وبما أنه لا توجد قنوات تواصل بين الصين وأميركا، كما أخبرنا كيسنجر، فإن احتمالات الحرب تصبح ممكنة جداً، لأن أميركا إن تقاعست ستخسر موقعها وسمعتها؛ ولا يوجد بديل لهذا الاحتمال إلا أن يتفق الطرفان على استنساخ آليات الحرب الباردة، ومعها سندخل حرباً باردة جديدة، تختلف تماماً عن تلك التي عاشها الروس والأميركان والعالم.