بقلم: إياد العنبر – موقع الحرة
الشرق اليوم- يحكى أن في أربعينيات القرن الماضي كان رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي نوري السعيد (قتل 1958) حاضرا في إحدى المناسبات الاحتفالية، وكان أحد الحاضرين صحفيا شابا ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي، وكان ناقدا في مقالاته لمواقف السعيد وسياساته، وعندما تعرف عليه نوري السعيد سأله عن دوافع انتقاده اللاذع؟ ثم رفع الباشا، كما كان يلقب السعيد، كفيه إلى السماء قائلا “اللهم أشكو إليك زعاطيط السياسة!” ينقل هذه الرواية أستاذنا الدكتور رشيد الخيون والتي كانت إحدى عناوين مقالاته الصحفية.
ورغم أن المراهقة السياسية في العراق بقيت صفة متلازمة في سلوك قوى السلطة والمعارضة على حد سواء، إلا أن استحضار هذه الحكاية له مغزيين: الأول، تعالي الباشا نوري السعيد على النقد، والبحث عن دوافعه بدلاً عن مناقشة واقعيته، وبقينا نتوارث هذه الإشكالية. والثاني التفكير المأزوم لدى الزعامات السياسية في العراق التي تنظر إلى الأجيال الصاعدة بأنها لا تعرف شيئاً عن السياسة ولا تعرف خفايا وأبعاد المواقف السياسية. ويبدو أن تغير الأزمان والأحداث لم يكن مؤثراً في تجاوز هاتَين المعضلتَين في العلاقة بين الجمهور والسياسي. ففي العراق اليوم نعيد نفس الأخطاء التي تراكمت في العهد الملكي والتي كانت السبب الرئيس في تهيئة الظروف المناسبة لنهاية تلك الحقبة من الحكم على يد العسكر.
وبعد انتخابات أكتوبر انعكست ملامح أزمة العمل السياسي في العراق -التي باتت أكثر وضوحا الآن- في قناعات أحزاب السلطة وقوى النفوذ، فهذه الأحزاب ترى أن خسارتها بالانتخابات لم تأت نتيجة لسوء إدارتها العملية الانتخابية، ولا لضعف مرشحيها، ولا لمعاقبة الجمهور لها برفض التصويت لها، وإنما هي نتيجة لتآمر داخلي وخارجي.
لا تريد القوى السياسية التي خسرت مقاعدها السابقة الاعتراف بأن الخسارة هي حصاد للمراهقة التي طغت على سلوكها ومواقفها في العمل السياسي منذ ثمانية عشر عاما. وقد تبدو صفة المراهقة السياسية عبارة ملطفة للواقع المأسوي الذي وصل إليه العراق على يد هذه النخبة الحاكمة والتي ضاعت على يدها كل ملامح الدولة، وساد غياب القانون وطغيان الفساد والفوضى. فهذه النخبة نفسها كتبت الدستور في 2005 لكنها هي أول من عمل على التجاوز على نصوصه ومبادئه! وهي نفسها من دمرت المؤسسات السياسية وحولتها إلى بورصة للمتاجرة بالمناصب العليا بالدولة! وعملت على ترسيخ الفَجوة بين الحكومة والمجتمع بعد أن جعلت وظيفة الحكومات ضمان تقاسمها لغنائم السلطة وموارد الدولة. وعملت على إضعاف المؤسسات التي يمكن أن يثق بها المواطن لحمايته من قوى السلاح المنفلت.
ورغم كل هذا الخراب ترفض الاعتراف بالفشل، وهنا قد يعترض بعض ويقول بأن الانتخابات التي جرت في أكتوبر الماضي لم تعاقب كل القوى السياسية التي كانت ولا تزال شريكاً بالفشل السياسي؟ نعم، هذا صحيح تماما، لكن تجربة الانتخابات في بلدان التحول الديمقراطي لا يمكن مقارنتها بتجارب الانتخابات في الديمقراطيات الناضجة. فالانتخابات في دولة هشة مثل العراق تعبر عن توجهات جمهور سياسي يتحرك ضمن دوائر العناوين والرمزيات الدينية والقومية والطائفية، ومن ثم الزبائنية السياسية. وبنية النظام السياسي قائمة على تقاسم السلطة وفق تلك التقسيمات والتقاطعات وليس بناءً على البرنامج والمنجَز السياسي. بيد أن خسارة عناوين سياسية كان لها حضور وفاعلية في المشهد السياسي طوال السنوات الماضية يعني درسا جديدا للقوى السياسية ويجب أن تتعلم منه وتحذر من تكرار أخطائه.
وترفض زعامات قوى السلطة التقليدية التفكير بطريقة المعادلة المقلوبة، أي التفكير باعتبارهم مواطنين وليسوا زعماء. إلا إذا غادروا قصورهم الفارهة وحاشيتهم وأفواج الحمايات وجربوا النزول إلى الشارع حالهم حال المواطن البسيط الذي يسكن العشوائيات ويشهد الإذلال في مراجعة أي دائرة حكومية ويقف عاجزاً أمام ضياع مستقبل أولاده بعد أن أنفق سنوات عمره لإكمال دراستهم وحصولهم على الشهادة الجامعية، وبالنتيجة لا يجدون فرصةَ عمل قادرة على ضمان عيشهم بكرامة. وكذلك إذا جربوا العلاج في المستشفيات الحكومية التي من يدخل بحثا عن الشفاء يخرج منها محمولا على الاكتاف لمثواه الأخير! لو فعلوا كل ذلك قد يلمسون شيئا من معاناة حياة المواطن.
وهكذا لا تريد الطبقة السياسية وزعامتها مغادرة الصفقات والتوافقات التي أنتجت الفشل السياسي، هذا الفشل الذي يدفع فاتورته المواطن العراقي من دمائه. ويواجه تهم الخيانة والعمالة للأجنبي إذا خرج متظاهرا يطالب بالعدالة والانصاف وضمان حقوقه في ثروات بلاده. والمفارقة من يوجه لهم هذه التهم هو نفسه اليوم يخرج متظاهرا ويريد اقتحام المنطقة الخضراء ويهدد الحكومةَ لأنه يرفض نتائج الانتخابات التي خسر فيها مقاعده السابقة.
ملامح الفشل السياسي باتت واضحة ولا تحتاج إلى دليل أو قرينة، والمشكلة باتت في الإصرار على الاستمرار بالفشل وإعادة إنتاج مغذياته! إذ بدلاً من التفكير بالحلول للأزمات يريد الفرقاء السياسيون ابقائها والاستثمار فيها، والتلويح بأن الخسارة لطرف سياسي ما، سواء أكانت في الانتخابات أو في دوائر النفوذ، تجعل خطاب التحذير من حرب شيعية-شيعية حاضرا؛ والمساس بالمكتسبات السياسية التي تأتي نتيجة للصفقات والتوافقات تجعل خطاب التلويح بـ(رسم الحدود بالدم) حاضرا!
هذا التفكير الذي يقدم خطاب التصادم على خطاب التسويات السياسية والاحتكام إلى الدستور، لا يمكن له إلا أن يبقي العراق تحت وصاية وسيطرة النخب السياسية التي فشلت في الانتقال من المراهقة السياسية إلى النضوج السياسي.