بقلم: د. سيف محمد الجابري – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – بداية يجب أن نفرق بين تعاملنا مع الثقافات المختلفة وبين أن تتحكم الثقافات، فالأولى محمودة وتأتي بثمار جيدة على المستوى الفردي والجماعي، بينما الثانية تسيطر على الفرد أو المجتمع وتجعله يحاكيها ويتخلى عن هويته وأعرافه وتقاليده، لذا لابد لنا من معرفة مفهوم الغزو الثقافي ثم نلتمس من خلاله كيف نتحصن منه ونتعامل مع الثقافات المختلفة ونستفيد منها دون أن تتحكم فينا.
الغزو الثقافي هو أي جهود وممارسات تتم من قبل مجتمع ما بحق مجتمع آخر للسيطرة عليه، ويعتبر الغزو الثقافي أشد خطورة من العسكري، حيث ينتهج في سرية وغموض، ويكون هناك سعي مستمر للسيطرة على العقول، لا سيما فئة الشباب والمراهقين وذلك من أجل زعزعة العقيدة في نفوسهم والتشكيك بها، وإثارة الشبهات، وأكثر المجتمعات التي يمارس عليها ذلك هي المجتمعات النامية.
إن الأمم العظيمة هي الأمم المعتزة بهويتها، ولها إسهامات في الحضارة الإنسانية، لها ثقافتها وترفض التقليد والتبعية، تشكل أجيالها على الاعتزاز بالانتماء، ويمكنها الاستفادة من الثقافات الأخرى فيما يخدم مصلحتها وتتعامل معهم وفق أسس ومبادئ واحترام الآخر دون أن تنسلخ من هويتها وتتأثر بالسلبيات الموجودة في الثقافات الأخرى.
إن التصدي للغزو الثقافي والفكري يحتاج لبذل جهود كثيرة ليس على المستوى الفردي فحسب بل مسؤولية كافة فئات المجتمع، ونشر الوعي بعدم الانسياق وراء الدعوات التي تحاول طمس الهوية، وتأمين وسائل الإعلام المختلفة قدر المستطاع من الدعوات التي تبث من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة التي أصبحت ملاذ كثير من الشباب والمراهقين وحتى الكبار.
لكن من المهم أن ندرك الفرق بين الغزو الثقافي والتعامل مع الثقافات الأخرى، فمواجهة الغزو الثقافي والفكري لا يعني عدم احترام الثقافات الأخرى أو الاستفادة من تطورها وتقدمها في مجالات مختلفة كالتقدم التكنولوجي والعلمي، لذا لابد من تطوير الوعي الذاتي لفهم مختلف الثقافات وتقبلها، دون الذوبان بداخلها ومحاكاتها في كل شيء ودون الانسلاخ من الهوية.
كذلك ينبغي ألا نحكم على الآراء والعادات والقيم التي تختلف عنا بأن جميعها خاطئة، بل لابد من تقبلها على أنها مختلفة فحسب، فليس هناك ما هو صحيح وما هو خاطئ في الثقافات؛ فلكل ثقافة فكرها وقيمها الخاصة.
إن التعايش والتعامل مع الثقافات والشعوب المختلفة يعد في حد ذاته هدفًا للم الشمل بين المجتمعات والأمم، وبيئة خصبة للسلام والأمن، تعايش يقوم على الاحترام المتبادل وإقامة حوار متحضر ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13].
لكن ينبغي مراعاة أن لكل ثقافة كرامتها وقيمها ولابد من احترامهما والمحافظة عليهما، وهذا ما حثنا عليه ديننا الحنيف، وفي الوقت ذاته تجنب كل ما فيه محو لثقافتنا ويعارض هويتنا العربية والإسلامية، فعلى الرغم من المفاسد والغزو الفكري والتغريب الذي يعاني منه بعض المجتمعات والمحاولات المستمرة لطمس هويتنا العربية والإسلامية؛ إلا أن هذا لا يمنع من التعايش السلمي وإيجاد مصالح مشتركة والتحصن من العوامل السلبية التي من شأنها السيطرة والتحكم.