الشرق اليوم- في الأسابيع الأخيرة، تصدّرت طاجيكستان عناوين الأخبار بسبب مواقفها المتشددة تجاه أفغانستان، حيث عادت حركة “طالبان” إلى السلطة حديثاً، وقد يوحي الوضع العام بأن طاجيكستان هي أول جهة يُفترض أن تهتم بالحفاظ على علاقات حسنة مع “طالبان”، فهي تتشارك حدوداً جبلية واسعة ويصعب التحكم بها مع أفغانستان، ويقال إن الجيش الطاجيكي هو الأضعف في آسيا الوسطى، كذلك تشكّل طاجيكستان نقطة عبور لمعظم عمليات تهريب المخدرات من أفغانستان إلى روسيا وأوروبا، وقد شهد البلد اعتداءات إرهابية عدة في السنوات القليلة الماضية.
لكن لم تسارع طاجيكستان لإقامة علاقات مع الحكومة الجديدة في كابول، على عكس جيرانها في آسيا الوسطى، فضلاً عن روسيا والصين، بل إنها فضّلت أن تطرح نفسها كعدوة “طالبان” الأولى، إذ يبدو أنها تدعم بقايا قوى المعارضة الأفغانية (مع أن دوشانبي تنكر هذه المعلومة).
تطرّق الرئيس إمام علي رحمن إلى الأزمات التي تواجهها أفغانستان في عهد “طالبان” في جميع خطاباته تقريباً، بما في ذلك الخطابات التي لا تتعلق بالسياسة الخارجية، حتى أنه كرر موقفه في الاجتماعات والمنتديات الدولية، وأعلن أن طاجيكستان لن تعترف بأي حكومة تنشأ في أفغانستان عن طريق القمع والاضطهاد، ما لم تأخذ بالاعتبار موقف الشعب الأفغاني كله، لا سيما الأقليات العرقية في البلد.
ردّت “طالبان” على هذه المواقف عبر التأكيد على عدم تحمّلها “التدخّل في شؤون أفغانستان الداخلية”، ثم أرسلت مقاتلين إلى الحدود الطاجيكية، تثبت طاجيكستان من جهتها جاهزيتها العسكرية أيضاً، فقد جعلت مئات آلاف الجنود في حالة تأهب للمرة الأولى منذ إعلان استقلالها في عام 1991، وأرسلت آلاف الجنود إلى حدود أفغانستان، كذلك زار رحمن شخصياً المناطق الحدودية للمرة الأولى منذ سنوات وخاطب الجنود واطّلع على عرض عسكري مرتقب.
لكن لا يزال الوقت مبكراً لتوقّع اندلاع حرب وشيكة بين طاجيكستان وأفغانستان، فرغم خطابات رحمن اللاذعة يحرص مع عدد من كبار المسؤولين الآخرين على توخي أعلى درجات الحذر، فيتجنّبون ذكر “طالبان” مباشرةً ويكتفون بانتقاد حكومة أفغانستان الجديدة لأنها لا تمثّل الأقليات العرقية بدرجة كافية.
منذ أن استولت “طالبان” على كابول، شاهد المواطنون العاديون في طاجيكستان سيلاً من الصور الصادمة من أفغانستان على مواقع التواصل الاجتماعي، وتلاحقت الدعوات التي تطالب المجتمع الدولي بالتنبه إلى أزمة الطاجيك في أفغانستان، وانتشرت رسائل الدعم لقوى المقاومة. من الشائع أيضاً أن تُوجَّه انتقادات ضد دول مجاورة أخرى لطاجيكستان، مثل أوزبكستان، بسبب استعدادها للتعاون مع حركة “طالبان”. تتكلم أوزبكستان بدورها عن أهمية تمثيل جميع الفئات في الحكومة الأفغانية وتشعر بالقلق على حقوق الجماعات الأوزبكية في أفغانستان، لكن على عكس دوشانبي، لا تعامل طشقند الأوزبكيين في أفغانستان وكأنهم “شعبها الخاص” أو ممثلون عن الشتات الأوزبكي، بل تعتبرهم في المقام الأول مواطنين أفغانيين.
تدرك دوشانبي أن لا وجود لأي كيان طاجيكي عابر للحدود، لكن رحمن طرح نفسه، على مر مسيرته السياسية، كأول مدافع عن جميع الطاجيك حول العالم، حتى أن حكومة طاجيكستان تحرص على تأجيج المشاعر القومية وسط الرأي العام.
لهذا السبب، أعطت الأزمة السياسية في أفغانستان فرصة قيّمة لزعيم طاجيكستان كي يحسّن صورته أمام شعبه، وهكذا استرجع شعاره المعروف حول “السماء السلمية فوق رؤوسنا” أهميته بعدما سئم الناس منه. بالإضافة إلى كسب الدعم محلياً، استفاد رحمن أيضاً من تسليط الضوء عليه دولياً، فهو كان الزعيم الوحيد من آسيا الوسطى الذي دعاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المفاوضات في باريس في 13 أكتوبر، حيث ناقش رحمن وماكرون احتمال أن تتلقى طاجيكستان مساعدات فرنسية لتجديد استقرار الوضع، كذلك اجتمع رحمن مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل، ومسؤولين دوليين آخرين خلال الرحلة نفسها إلى أوروبا.
لا تنوي طاجيكستان أن تخوض أي مواجهة مباشرة مع “طالبان”، لكن من خلال المجازفات من الدول المجاورة الأخرى، يبدو أن قادة طاجيكستان يريدون زيادة شعبيتهم محلياً وخارجياً، كما تستطيع دوشانبي تحمّل كلفة هذه المجازفات لأنها تعرف أنها ستتّكل في نهاية المطاف على القوات الروسية التي تنشر الأمن على الحدود الطاجيكية الأفغانية، كذلك، ثمة تعاون عسكري وثيق بين طاجيكستان والصين.
يبدو أن التوقعات التي تنذر بعدم استقرار الوضع في أفغانستان في المستقبل القريب ستقوّي نظام رحمن لسنوات إضافية، وفي الوقت نفسه، تحرص دوشانبي على عدم المبالغة في مواقفها، مما يعني أن يتمكن رحمن من التواصل مع “طالبان” إذا تصاعدت الاضطرابات على طول الحدود الأفغانية وأصبحت أخطر من اللزوم.