بقلم: د. محمود محيي الدين – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – أكتب هذه الكلمات وصدى الخطب في قمة غلاسكو للمناخ يدوّي في جنبات القاعة التي أتابع منها عن بعد أعمال القمة التي تعقد في إطار الأمم المتحدة مع جمع من عموم الناس وبعض الخبراء المختصين وممثلي المؤسسات المالية. منذ بدأت سلسلة هذه القمم التي ترعاها الأمم المتحدة منذ عام 1995، شهد بعضها زخماً حقق أثراً، وعانى بعضها من تكرار للتعهدات والمناشدات بلا فعل يذكر، كما تعرضت إحداها وهي قمة كوبنهاغن في عام 2009 لفشل مدوٍ استغرق المجتمع الدولي بعدها سنوات ليحشد قواه ويشحذ الهمم مستعيناً بالعلم وبعض المال. وتظل قمة باريس في عام 2015 وما ترتب عليها من اتفاق دولي ملزم لأطرافه هي المرجع لجهود مكافحة تغيرات المناخ التي تلتها.
وليس من قبيل المبالغة أو التبسيط المخل أن يكون معيار الحكم على قمة غلاسكو بالنجاح أو الفشل متعلقاً بوفائها بوعود باريس المتضمنة في اتفاقها وتعهداته. فلا يحتاج العالم لتعهدات جديدة بل بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه من دون إبطاء. وها هي التقارير العلمية تؤكد أن العالم ليس على المسار السليم نحو هدف الإبقاء على ارتفاع درجة حرارة الأرض بما لا يزيد على درجة ونصف الدرجة مئوية عن مستواها قبل الثورة الصناعية، وهو الهدف الذي اتفق عليه العلماء حماية للأرض ومن عليها وما عليها أيضاً. فرغم تعهدات باريس، تستمر الانبعاثات الضارة بالبيئة ارتفاعاً بما يفوق الحدود القصوى المسموح بها، وتتراجع أحجام التمويل المتاحة عن الحدود الدنيا التي التزمت الدول المتقدمة بها مساندة للدول النامية.
وقد عبرت كلمات لممثلي الجزر الصغيرة وسكان السواحل وأهالي تجمعات الصيادين وقرى صغيرة للمزارعين، وقاطني تخوم الغابات عن مآسٍ لفقدان الحياة أو أسباب المعيشة. فمن لم يطلع على التقارير العلمية عن تدهور أحوال المناخ والتنوع البيولوجي وزيادة التلوث البيئي ليس عليه أن ينصت لروايات الصراع اليومي مع عواقب ما وصلت إليه حياة هؤلاء البشر، بما جنته أيدي بشر آخرين بإطلاقهم مزيداً من الانبعاثات الضارة بالمناخ. وعندما علق أنتونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة على النتائج المرتقبة للقمة في ظل هذه الأوضاع المتدهورة، قال إن الفشل ليس خياراً مطروحاً على هذه القمة، بل هو قرار بالإعدام! وهناك أربع قضايا محددة سيتوقف عليها نجاح هذه القمة أو فشلها:
أولاً، وضع الدليل العملي لتنفيذ اتفاق باريس. أؤكد أنه لا حاجة بنا للاستماع إلى تعهدات جديدة حماية للمناخ، فأي تعهد جديد هو فاقد لمصداقيته منذ لحظة الإعلان عنه في عالم يعاني من فوائض في الوعود وعجز في التطبيق، فقد سبقت الكلمات الرنانة الانبعاثات الضارة إلى عنان السماء وغابت الأفعال إلا قليلاً مما هو مأمول. وسيقضي المفاوضون في غلاسكو أياماً طويلة لمحاولة الوصول إلى دليل للقواعد العملية لتفعيل مواد اتفاق باريس، بما في ذلك المادة 6 الخلافية المتعلقة بالتفاصيل الفنية بناء آليات سوق منضبطة وعادلة وكفؤة للكربون، بما في ذلك تجنب ازدواجية الحسابات، مع أهمية مراجعة المساهمات المحددة وطنياً بتخفيض الانبعاثات الضارة. وقد شدد علماء المناخ وخبراء التنمية على أهمية عدم الاكتفاء بالأهداف الصفرية بعيدة المدى نحو تحقيق الحياد الكربوني في عام 2050 أو 2060، بل يجب أن تحدث المراجعات بشكل سنوي على مستوى كل دولة بما يحقق خفض الانبعاثات بما لا يقل عن 45 في المائة بحلول عام 2030.
ولما كانت دول مجموعة العشرين تمثل 80 في المائة من الاقتصاد العالمي، وهي أيضاً مسؤولة مجتمعة عن 80 في المائة من الانبعاثات الضارة، فإن عليها عبئاً أكبر في تحمل المسؤولية.
ثانياً، الوفاء بتعهدات التمويل. تعهدت الدول المتقدمة في عام 2009 بإتاحة 100 مليار دولار لمساندة الدول النامية في تنفيذ برامجها لمكافحة تغيرات المناخ من خلال إجراءات التخفيف للانبعاثات الضارة؛ مثل اللجوء للطاقة المتجددة في توليد الكهرباء ووسائل النقل منخفضة الاستخدام للكربون وزيادة كفاءة إنتاج واستخدام الطاقة. وكذلك مساعدة هذه الدول في التكيف مع آثار تغيرات المناخ وإضرارها بالمجتمعات والقطاعات الحيوية والاقتصادية مثل تطوير المجاري المائية والمصارف الصحية وإدارة القطاع الزراعي والحفاظ على الشواطئ والغابات والمصائد وتنمية البيئة السكنية وحمايتها من التلوث. وهذه التعهدات التمويلية يجب ألا ينظر إليها من باب الهبات والعطايا، ولكن من باب العدالة في قواعد التعويض عن الضرر الذي لحق بالدول النامية وهي الأقل تلويثاً سواء بالمعيار الجاري أو التراكمي. فالدول الصناعية القديمة والجديدة هي المسؤولة عن النسبة الكبرى من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للفضاء المحيط. وتشير أرقام مشروع الكربون العالمي إلى أنه منذ 1750 تحتل الولايات المتحدة النصيب الأول تراكمياً بنسبة 25 في المائة ويتلوها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين بنسبة 22 في المائة، ثم الصين بنسبة 12.7 في المائة، ثم الهند 3 في المائة، ونصيب كل الدول الأفريقية مجتمعة لا يتجاوز 3 في المائة، وفقاً لدراسة أعدها الباحث سينان أولجن صدرت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وهناك مشكلة تتعلق بكيفية حساب المائة مليار الموعودة تلك فيما يتعلق بما يجب تضمينه من تدفقات مالية مقبلة من الدول المتقدمة، فهي خليط من أنواع من التمويل تتراوح بين منح وإعانات وقروض ميسرة عامة وخاصة، وتعتمد بالأساس على تقارير تعدها الجهات المانحة. كما تفتقد لتقييم الأثر على تغيرات المناخ، وقد أشار كذلك معهد تنمية ما وراء البحار بالمملكة المتحدة إلى غياب بيانات التقييم النوعي لهذا التمويل، وفقاً لاعتبارات الشفافية والحوكمة والقدرة على توقع التدفقات.
وفي حين تشير تقارير منظمة التعاون والاقتصادي والتنمية إلى أن التمويل الفعلي قد اقترب من 80 في المائة من التعهدات في عام 2019، وهو ما أكده أيضاً التقرير الصادر منذ أيام عن وزيري البيئة في ألمانيا وكندا بتكليف من رئاسة قمة غلاسكو، فإن تقارير أوكسفام تشير إلى فروق شديدة بين ما تعده الدول المانحة تمويلاً عاماً لتغيرات المناخ، وما يمكن اعتباره تمويلاً صافياً يستهدف مكافحة تغير المناخ في الدول النامية، وأنه لم يتجاوز 22 مليار دولار في الفترة من 2017 حتى 2018، وليس 60 ملياراً تقريباً، كما تشير تقارير الجهات المانحة.
وتجدر الإشارة إلى انحياز التمويل إلى إجراءات التخفيف، إذ لم يتجاوز التمويل الموجه للتكيف وتخفيف الأضرار بالمجتمعات 21 في المائة من إجمالي التمويل المرصود. وقد دفع هذا التباين لمطالبة الدول النامية لتحقيق التساوي بين نوعي التمويل لتتحصل مجالات التمويل والاستثمار في التكيف مع آثار تغيرات المناخ على نصيب عادل. وهذا يتطلب إعداداً للمشروعات للاستفادة من هذا التمويل.
ثالثاً، الاستثمارات الجديدة والتعاون العلمي والتكنولوجي. يظل رقم المائة مليار المطلوب توجيهها سنوياً للدول النامية، حتى إذا تم الوفاء به كاملاً، غير كافٍ لمتطلبات تمويل تغيرات المناخ سواء بالنسبة للتخفيف من الانبعاثات الضارة أو التكيف مع آثار التغير أو إدارة التحول المنضبط نحو الحياد الكربوني. وقد ترددت أرقام تجاوزت مضاعفات هذا الرقم لتحقيق أهداف تغيرات المناخ في الدول النامية. وقد أشار مارك كارني محافظ بنك إنجلترا المركزي الأسبق في مقال نشرته صحيفة «الفايننشيال تايمز» الأسبوع الماضي، إلى أن العالم في حاجة إلى تعبئة 100 تريليون دولار على مدار 30 سنة لتحقيق أهداف التحول نحو الحياد الكربوني من خلال نظم الطاقة المستدامة وحدها. يبدو هذا الرقم كبيراً بمتوسط سنوي يتجاوز 3 تريليونات دولار سنوياً في شكل تمويل خارجي، ولكنه يعتمد على آليات للمشاركة بين التمويل العام والخاص والدعم الفني المساند، بتمويل متاح في أصول تحت إدارة المؤسسات المالية تجاوزت 250 تريليون دولار، وفقاً لمؤسسة «بي سي جي» للاستشارات.
في كل الأحوال تحتاج الدول النامية لاستثمارات ضخمة وليست قروضاً ميسرة أو تجارية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بما في ذلك هدف مواجهة تغيرات المناخ كهدف مهم وحيوي من أهدافها، ولكنه ليس الهدف الوحيد. فالدول النامية بحاجة إلى الاستثمار في البشر تعليماً ورعاية صحية، وفي البنية الأساسية والتكنولوجية جنباً إلى جنب مع الاستثمار في أبعاد الاستدامة البيئية ومواجهة تغيرات المناخ. وهذا ينبغي أن يبدأ بضبط لأولويات الإنفاق العام وإعداد موازنات الدولة لتتوافق مع متطلبات تحقيق أهداف التنمية.
رابعاً، في خضم مشاورات المفاوضين في غلاسكو هناك حاجة ماسة إلى ضبط معايير التقييم سواء لتعهدات تخفيض الانبعاثات الضارة وأهداف الحياد الكربوني أو طرق حساب تمويل الاستدامة. فهناك ازدياد في انتشار ما يعرف بظاهرة الغسل الأخضر، بادعاء حكومات وشركات ومؤسسات تمويل بتوافق مزعوم بقواعد الاستدامة والاعتبارات البيئية والحوكمة والإسهام في تحسين الآثار الاجتماعية لأنشطة وصفقات تجارية واقتصادية. وهذا يستلزم الاتفاق على معايير وقواعد منضبطة يتم تعميمها والالتزام بها عند النشر والإفصاح.
ما نتابعه في قمة غلاسكو ومشاوراتها قد يكون بداية لتطبيق تعهدات كثر الحديث عن ضرورتها لإنقاذ البشرية والحياة على الأرض، وكل ما نحتاجه هو الوفاء بهذه التعهدات فحسب. وفي ظل أجواء يكتنف العالم فيها عجز في الثقة وتوتر بين أقطابه، فإن تنفيذها أمر صعب، ولكنه ليس مستحيلاً.