بقلم: د. منار الشوربجي – المصري اليوم
الشرق اليوم- التراجع عن الحقوق المتساوية لسود أمريكا يحدث اليوم بمعدلات غير مسبوقة. فهو طال، ليس فقط الحق في التصويت بالانتخابات العامة، وإنما وصل لما يتلقاه تلاميذ المدارس عن تاريخ بلادهم. وهي قصة تحمل مفارقات ذات دلالات مهمة.
أولى تلك المفارقات أن أنصار تفوق العرق الأبيض منشغلون هذه الأيام ليس بمحاربة سياسات عامة يرونها تدعم الأقليات، وإنما بمحاربة نظرية علمية! والنظرية التي يشنون حملة شرسة ضدها ليست جديدة وإنما برزت منذ سبعينيات القرن العشرين، أي حين بدأ التراجع عن مكتسبات الحقوق المدنية. وهي لم تُنشر فى الإعلام وإنما ظلت في الحدود الأكاديمية ونُشرت بدوريات علمية محكمة.
والنظرية قدمت بالأدلة العلمية أطروحة مؤداها أن المسألة العرقية لعبت ولاتزال تلعب دورًا مهمًا في تشكيل المؤسسات والهياكل الأمريكية حتى اليوم. فالمؤسسات والهياكل المختلفة من نظام التعليم للنظام القضائي الجنائي، ومن سوقي العمل والإسكان لنظام الرعاية الصحية تتخللها العنصرية عبر عشرات القواعد والإجراءات الصريحة والمسكوت عنها والتي تؤدي في الواقع المعيش إلى تمييز صارخ ضد السود.
أما المفارقة الثانية فهي أن تلك النظرية التي لم يهتم بها سوى الأكاديميين وطلاب الجامعات المعنيين بدراسة المسألة العرقية صارت اليوم فجأة جزءًا من الخطاب العام لإعلام اليمين ولمنظمات يمينية بعضها شديد التطرف وبعضها الآخر مرتبط بشكل وثيق بالحزب الجمهوري، في نسخته الحالية، بعد أن صار حزب ترامب.
فقد انضم للحملة أعضاء بالحزب فى الكونجرس وبالمناصب المنتخبة بالولايات. وأطلق هؤلاء حملة بالغة الشراسة على النظرية تتهمها بأنها “غير وطنية” تحط من قدر أمريكا ذاتها وتتهمها بالعنصرية، وتنكر أنها نظام “ديمقراطى يقوم على المساواة بين الجميع”. وقد نجح أولئك الجمهوريون بالمجالس التشريعية في ثماني ولايات في إصدار قوانين تحظر تدريس تلك النظرية في المدارس، بينما يستعدون في عشرين ولاية أخرى لإصدار تشريعات مماثلة. وكل ذلك بدعوى أنها تولد لدى التلاميذ البيض شعورًا بالذنب.
المفارقة الثالثة أن النظرية لم تكن تُدرس أبدًا بالمدارس في أي مرحلة من مراحل التعليم ما قبل الجامعي، بل إنها حتى ليست جزءًا مما يدرسه الطلاب بالضرورة في تعليمهم الجامعي. أكثر من ذلك، فإن الكتابات الأكاديمية التي تستخدم النظرية لا تدين مطلقًا البيض كأفراد، حتى تكون سببًا في خلق الشعور بالذنب، وإنما هي معنية بالهياكل والمؤسسات والإجراءات وتأثيرها على واقع السود.
غير أن الأخطر من هذا كله أن تلك التشريعات التي صدرت في الولايات لا تذكر النظرية بالاسم، وإنما تحظر أي مناقشة بالمدارس لأي ما قد يُنظر له باعتباره تمييزًا أو قهرًا، صريحًا أو ضمنيًا، ضد أي جماعة أمريكية، أو ما قد يمثل مزايا صريحة أو ضمنية لجماعة أخرى.
ورغم أن المعركة كلها قد تبدو عبثية، كونها تدور حول نظرية لم تكن تُدرس أصلًا، إلا أنها ذات أبعاد خطيرة لأن تشريعاتها الفضفاضة التي لا تذكر النظرية بالاسم تنطبق على التاريخ الأمريكي كما تنطبق على الحاضر، الأمر الذي يحظر عمليًا تقديم التاريخ للأطفال الأمريكيين بشكل أمين يسمح لهم بتعلم دروسه.
غير أن المعنى الكامن وراء الحكاية برمتها له دلالاته التى تستحق التأمل. فالذين يرون فى الحديث عن العنصرية المؤسسية تهديدًا لأمريكا ذاتها لا يفرقون فى الحقيقة بين اتهامهم كأفراد بالعنصرية وبين عنصرية الهياكل والمؤسسات، الأمر الذي يفضح المسكوت عنه في مواقفهم السياسية وتوجهاتهم. ولأن التجربة الأمريكية تجربة إنسانية فإنها تحمل دروسًا مهمة تتعلق بالذاكرة الجمعية للأمم وكتابة تاريخها.